يخطئ من يظن أن الرئيس الإيراني المنتخب مسعود بزشكيان سيقود نهجاً جديداً في الحكم والعلاقات الخارجية يختلف عن النهج الذي أرساه الولي الفقيه ونظام الملالي. صحيح أنه شخص محسوب على ما يسمى التيار الإصلاحي وفاز بفارق ثلاثة ملايين صوت على المرشح الأصولي سعيد جليلي، لكن هذا الفوز ما كان ليحصل لو لا موافقة المرشد بداية من قبول ترشيحه لرئاسة “السلطة التنفيذية”، وهي نفسها رئاسة الجمهورية وصولاً إلى السماح له بالفوز.
في مؤتمره الصحافي الأول الذي أرجئ بسبب استدعاء المرشد علي خامنئي له إلى لقاء “توجيهي” ثم نقل مكانه من قاعة إلى أخرى حتى استقر في مرقد الإمام الخميني، كان أهم ما تفوه به بزشكيان وأخطره قوله “لو لا خامنئي لما خرج اسمي من صناديق الاقتراع”. وفي المؤتمر نفسه حاول تكرار فكرته عن “فتح صفحة جديدة” فأوقفه ضجيج الحضور الذي لم يكن واضحاً ما إذا كان ضجيج ابتهاج أم احتجاج، مما اضطره إلى قطع قراءة النص المعد للمناسبة والاكتفاء بتوزيعه والتذكير أنه في حضرة الخميني سيكون “خادماً للشهداء”.
لم يعد الوعد بصفحة جديدة مفيداً بعد استهلاكه في الحملة الانتخابية. وخدمة الشهداء التي أنهى بها مؤتمره الصحافي الأول بعد انتخابه حملت عودة إلى الأصول التي حرص خامنئي على تذكيره بها في اليوم التالي. وفي ذلك اليوم استحضر المرشد نائب الرئيس وأعضاء حكومة “الشهيد إبراهيم رئيسي” ليقول أمامهم إن على خليفة رئيسي أن يلتزم خطواته من دون التباس.
في نظر المرشد أن رئيسي كان “شعبياً” وعلى الجميع أن يحذو حذوه. حكومته كانت “حكومة العمل والأمل والحركة في الداخل والخارج” وهو كان “يتجنب الكلام ذي الحدين أو العمل بحسب ذوق الآخرين”، وما “كان يقدم التنازلات عبثاً” وكان متسامحاً “في إحدى المرات كان هناك خلاف خطر في البلاد كاد ينتهي بالصراع لكنني قلت له ألا يظهر رد فعل على الإطلاق، كان الأمر صعباً عليه لكنه لم يتفاعل معه وتحمله” ثم إن رئيسي كان صريحاً. وقال المرشد وأورد عن ذلك مثالاً “في إحدى المرات سأله صحافي هل تقيم علاقات مع ذلك البلد؟ فأجاب لا، وتمسك بهذا الخط حتى النهاية”.
ولم يكن حديث خامنئي عن مسألتي الصراع الداخلي وإقامة العلاقة مع “هذا البلد” عرضياً. هو كان يقصد مباشرة طاعة رئيسي في مسألة “انتفاضة الحجاب” وتبنيه موقف المرشد من العلاقة مع أميركا والغرب. وخامنئي كان حذراً عشية الانتخابات من اختيار شخص قد يسعى إلى تجديد العلاقة مع أميركا، وها هو يضع في لقائه حكومة الرئيس الراحل ضوابط عمل الرئيس المقبل الداخلية والخارجية. صمت وقبول في الداخل و”لا” صريحة في الخارج.
ينبغي تخفيض سقف التوقعات بعد موجة الحديث عن فوز “الإصلاحيين”. وقد لا يهتم كثر بمسارات الصراع في إيران ونتائجه فهذه مسألة تخص الشعوب الإيرانية في الأساس، لكن البلدان المجاورة يهمها أن تعرف ماذا يمكن للرئيس الجديد أن يفعل في شأن التوغل الإيراني بأراضيها ومجتمعاتها، وهنا أيضاً لا يجب بناء الأوهام فقد حرص قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني بعد انتخاب بزشكيان على زيارة “مناطق جبهة المقاومة” الاسم “الرسمي” لمناطق النفوذ الإيراني، وحرص على الاجتماع بقيادة محاور هذه الجبهة. وتلك كانت رسالة واضحة من جهاز “تصدير الثورة” للرئيس الجديد بأن القديم باق على قدمه، ولا يغير في الأمر شيئاً الكلام الدبلوماسي المعسول عن توطيد علاقات حسن الجوار.
وفي هذا الباب افتعلت البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة مشكلة حول تسمية الخليج العربي، مصرة على إطلاق اسم الخليج الفارسي عليه، وكانت تلك إشارة إلى الرئيس الجديد حول الضوابط التي لا يمكنه تخطيها بما في ذلك صورة التسميات، التي تستبطن الموقف الإيراني من مشكلات مطروحة مثل احتلال الجزر الإماراتية والخلاف على حقل النفط المشترك مع السعودية والكويت.
سينتظر الخليج والمشرق العربي وهما يرغبان بتغيير إيجابي في السياسات الإيرانية واستعادة علاقات طبيعية بين بلدان المنطقة، لكن الخيارات الأولى التي حرص بزشكيان على إعلانها لا توحي بتحول مفيد. ورسائله المتبادلة مع رموز المحور الإيراني وميليشياته في لبنان وفلسطين واليمن والعراق تؤكد استمرار النهج القائم، وهي في أبسط التقييمات ترجمة سياسية لتوجيهات الحرس الثوري العسكرية.
وفي رسالته إلى العالم عبر صحيفة “طهران تايمز” أبلغ الرئيس المنتخب الولايات المتحدة الأميركية أن “إيران لا تستجيب للضغوط” وكرر ما يقوله النظام في أن “عقيدة الدفاع الإيرانية لا تتضمن أسلحة نووية”، ثم شدد على علاقات الصداقة مع الصين والتحالف الاستراتيجي مع روسيا. وعملياً لم يقل جديداً وإنما جدد الالتزام بنهج رئيسي وهو ما يطلبه المرشد.
وفي الخامس من أغسطس (آب) المقبل والبعض يقول في الـ30 من يوليو (تموز) الجاري سيتم تنصيب بزشكيان. الحرص الرسمي الإيراني قائم على استكمال “العرس الديمقراطي” في احتفال يدعى إليه رؤساء وقادة. حتى ذلك اليوم ستتكرر مراسم إبداء عهود الطاعة للنظام فيما تضبط وعود التغيير الداخلي. وستعود مقولة إن السياسة الخارجية للدولة يضعها مجلس الأمن القومي بإشراف خامنئي. واستناداً إلى ذلك لن تتغير إيران، فالمجلس المذكور الذي يضم جليلي خصم الرئيس إضافة إلى رموز أصولية أخرى لن يسمح لبزشكيان لو أراد حتى بتكرار ملاحظات حليفه جواد ظريف عن سيطرة الأمن على الدولة، وظريف نفسه الذي طرح اسمه وزيراً للخارجية سارع إلى نفي سعيه إلى المنصب، ربما لأنه يعرف أن خطوة كهذه تدخل في قائمة الممنوعات، أما المتاح فلن يكون غير ما نشهده اليوم، حرص على التواصل السري مع أميركا بهدف وراثة حضورها في غرب آسيا، وخوض معارك تثبيت الوجود الإيراني في المشرق العربي وجنوب الجزيرة العربية.