الاستيلاء على التعليم العالي في العراق يضخ دماء جديدة للميليشيات

الاستيلاء على التعليم العالي في العراق يضخ دماء جديدة للميليشيات

المواجهة الحاسمة ضد محاولات استيلاء أعضاء هيئة التدريس والطلاب الموالين لإيران على وزارة التعليم العالي في العراق، من شأنها أن تساعد في تقويض مساعي الميليشيات لتجنيد جيل جديد من المقاتلين.

بغداد – منذ تولي حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني كان مفاجئا السعي الحثيث لحركة عصائب أهل الحق لتولّي مسؤولية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي تشرف على أكثر من مليون طالب.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أدرجت جماعة عصائب أهل الحق على لائحة المنظمات الإرهابية، ويخضع زعيمها قيس الخزعلي للعقوبات، إلا أن الجماعة تتمتع بامتيازات قوية ونفوذ واسع ومزايا مالية بفضل نشاطها داخل بعض القطاعات الحكومية العراقية.

وسابقا، كانت الجماعات التابعة لعصائب أهل الحق تسيطر على وزارة السياحة والثقافة والآثار، التي تتسم بامتلاكها صلاحيّات ماليّة أكثر من التعليم العالي، لكنها تخلت عن تلك الوزارة مقابل السيطرة على وزارة التعليم العالي.

ويرى الباحث العراقي جواد مهدي، عضو مجموعة المراقبة الخاصة بالعراق، في تقرير نشره معهد واشنطن، أن تخلّي العصائب عن الأموال المترتبة على تجارة المشروبات الكحوليّة وإعطاء الرخص السياحيّة والاستثماريّة خطوة محسوبة تهدف على ما يبدو إلى مقايضة الثروة بالنفوذ، إذ إن موقعهم الجديد في التعليم العالي يعطيهم الفرصة لتعويض النقص الحاصل في الكوادر الشابّة لدى الميليشيات، والسعي لتقويض الحركات الإصلاحيّة الشبابيّة التي تمتلك مواقف إيجابيّة تجاه المجتمع الدولي، العاملة بين أوساط طلبة الجامعات.

ومثل هذه الحركات الطلّابية كانت الوقود الأساسي للاحتجاجات التشرينيّة سنة 2019 والتي ساهمت بتقويض سلطة الميليشيات ووضعها في صدام مباشر مع المجتمع العراقي (خاصة في المناطق الوسطى والجنوبيّة ذات الغالبيّة الشيعية) وطموحات المواطنين العراقيين المشروعة بحياة أفضل ودولة خالية من النفوذ الإيراني.

وهكذا، عملت الميليشيات على الحد من تأثير هذه المجموعات الطلابية وتكميم أصواتها من خلال تقديم سرديتها الخاصة، فبعد حادثة اغتيال قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس في عام 2020، عملت الفصائل على محاكاة النموذج الإيراني المعروف بولاية الفقيه وقامت بتكريس صورة المهندس كـ”بطل وطني” في مختلف المجالات العامّة في العراق، بدءا من الصور في الشوارع والساحات والحدائق العامّة ودوائر الدولة، وليس انتهاء بقطاع التعليم. إذ تم تأسيس ما يُعرف بـ”تجمع أبناء المهندس” الذي يتصدّى بشكل أساسي للعمل في أوساط الجامعات والكليّات ومحاولة كسب الشباب إلى قضايا مشروع ولاية الفقيه المختلفة، وخلق حواضن اجتماعية جديدة للميليشيات المسلحة تحت ذرائع مواجهة الاحتلال الأميركي والتصدي لمحاولات الغرب لنشر ثقافته في المجتمع العراقي.

ولم يلق تجمع أبناء المهندس استجابة بين أوساط طلبة الجامعات، ولا التسهيلات المالية والتنظيمية الكافية للقيام بنشاطاته إلّا بعد تولّي نعيم العبّودي مسؤول التوجيه العقائدي لحركة العصائب لمنصب وزير التعليم العالي في عام 2022. وساهم العبّودي بتقوية تجمّع أبناء المهندس وتوفير الغطاء الحكومي اللازم له للقيام بنشاطاته، بالإضافة إلى الدعم المالي والسياسي المطلوب لاجتذاب عناصر جديدة.

وابتدأ هذا التجمع من خلال نشاطات مشابهة لتلك التي تقوم بها منظّمات المجتمع المدني في العراق، ولكن بصبغة أخرى معاكسة في المضمون، إذ يرعى ورشا تدريبية وجلسات عامّة وأخرى خاصة ويقيم المهرجانات والمؤتمرات، لكن بأجندات تركّز على ترسيخ صورة الحشد الشعبي إزاء بقية مؤسسات الدولة الأمنية، والترويج لأبي مهدي المهندس، بالإضافة إلى التركيز على مواضيع فقهية ذات أبعاد سياسيّة تتعلق بالموقف تجاه دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وباقي الدول الأوروبية وحلفائها العرب في المنطقة، وتكريس موقف سلبي تجاههم.

وفي المقابل يتم تسويق إيران على أنّها الحامية الوحيدة للمذهب الشيعي وضرورة أن يتعاطف شيعة العراق معها من أجل “مواجهة الاستكبار العالمي” وغيرها من البروباغندا الولائيّة التقليدية.

وبالإضافة إلى هذا الطوفان من الدعاية التقليدية لولاية الفقيه، يستضيف تجمع أبناء المهندس سياسيين وقادة في الحشد الشعبي ذوي توجهات ولائيّة ويقوم بتعريف طلبة الجامعات إليهم.

ويسعى أبناء المهندس للتأثير على طبقة المحافظين الشيعة، والذين يتبعون في تقليدهم مرجعية النجف، إذ لا يمكن للأجندات التي يطرحها أبناء المهندس التأثير على الطلبة الليبراليين أو العلمانيين، أو أولئك غير الملتزمين دينيًّا مما يجعل المؤسسة الدينية في النجف أحد أهم المتضرّرين من استمرار نشاطات الميليشيات في أوساط طلبة الجامعات، إذ ينجح تجمّع أبناء المهندس في اجتذاب الطلبة المحافظين الشيعة صوب الاقتناع بالنموذج الإيراني، وإبعادهم عن اتباع المؤسسة الدينية في النجف بشكل تدريجي.

وهناك علاقة مباشرة بين الحشد الشعبي كإحدى مؤسّسات الدولة، وتجمع أبناء المهندس كرابطة طلابية، إذ يستلم المؤثّرون في تجمع أبناء المهندس رواتب من مؤسسة الحشد كموظّفين فيها. وتوجد هناك موارد ماليّة تُعطى من الحشد كمؤسسة من أجل توفير غطاء يسمح بالقيام بفعاليّات تجمع أبناء المهندس، إلّا أن حجمها ما زال غير معروف نتيجة لغياب أي نوع من أنواع الرقابة أو الرصد على صرفيّات الحشد الشعبي سواء من قبل الدولة أو مراقبين مستقلّين.

ويعد ضرغام قيصر، من قسم الهندسة المدنيّة – الجامعة التكنولوجية، بغداد، من أبرز الطلبة المشاركين في تجمع أبناء المهندس والذي عُرف بصوره حاملا شعارات الحشد ورافعا لصور أبي مهدي المهندس. كذلك، يوفّر أساتذة جامعيّون الدعم والتغطية لنشاطات أبناء المهندس في كليّاتهم، أبرزهم رئيس قسم الهندسة المدنيّة في الجامعة التكنولوجية (حسن حمودي جوني)، ورئيس جامعة البصرة (سعد شاهين) الذي عُرف بصوره رافعا لصور قاسم السليماني وأبومهدي المهندس في العديد من المناسبات، بالإضافة إلى تسهيله نشاطات أبناء المهندس في جامعة البصرة.

ومن جانب آخر، يستضيف تجمع أبناء المهندس قادة في الحشد بشكل دوري، أبرزهم أبوعلي الكوفي المتورط بعمليّات فساد تتعلق بأمانة العاصمة بغداد، ورجال دين ذوي توجه ولائي مثل هاشم الحيدري ممثل علي خامنئي في العراق والأمين العام لحركة “عهد الله”، بالإضافة إلى نوّاب ولائيين مثل فالح الخزعلي.

ووفّر الحشد، في حوادث متعددة، وسيلة لتجمع أبناء المهندس من أجل استغلال موارد الدولة بشكل غير قانوني للقيام بفعالياتهم، شملت هذه الحوادث تسهيل دخول صور قاسم سليماني ورموز سياسيّة ولائيّة أخرى داخل الحرم الجامعي، والضغط باتجاه السماح باستخدام القاعات الدراسيّة للكليّات من أجل استضافة الورش والدورات والجلسات الخاصة بأبناء المهندس.

وفي مقابل ذلك، يوفّر تجمع أبناء المهندس النافذة المناسبة لهيئة الحشد من أجل تحديد الطلبة المتفوّقين في المجالات الهندسيّة واجتذابهم للعمل في المشاريع المتعلّقة بـ”شركة المهندس” الإنشائيّة، وكذلك مشاريع بناء الصواريخ والطائرات المسيّرة لصالح الميليشيات.

يتم تسويق إيران على أنّها الحامية الوحيدة للمذهب الشيعي وضرورة أن يتعاطف شيعة العراق معها من أجل “مواجهة الاستكبار العالمي” وغيرها من البروباغندا الولائيّة التقليدية

وواحد من العوامل التي ساعدت أبناء المهندس في أداء فعالياتهم حصل قبل إنشاء هذا التجمع بكثير، إذ عمد وزير التعليم العالي الأسبق (علي الأديب) إلى استبدال جميع القوات الأمنية المسؤولة عن حماية الجامعات بأخرى تنتمي إلى الفصائل المسلّحة.

وفي وقتها، هدفت هذه الخطوة إلى مواجهة المد المدني والليبرالي المتزايد بين طلبة الجامعات ومحاولة التضييق على الحريّات العامة داخل الجامعة وإلغاء المظاهر المدنيّة فيها، بالإضافة إلى توفير غطاء مادّي لأفراد الميليشيات من خلال رواتب الدولة، إذ لم يكن هناك غطاء مؤسساتي لهم كما توجد اليوم مؤسسة الحشد الشعبي.

ورغم عدم وجود نيّة مباشرة تتعلق بأبناء المهندس آنذاك، إلّا أن هذه الخطوة نفعت أبناء المهندس الآن ووفرت لهم تسهيلات في ما يتعلق بدخول المؤسسات التعليمية والتغطية على نشاطهم فيها. إذ استمر نفس المنتمين إلى الفصائل بالتواجد منذ وقت علي الأديب وحتّى الآن، وهؤلاء يمتلكون تعاطفا عاليا مع قضية أبناء المهندس والأهداف التي يسعون لتحقيقها.

وتمثل التطور اللاحق أثناء حكومة مصطفى الكاظمي وتولّي نبيل عبدالصاحب مسؤولية وزارة التعليم العالي خلال الأشهر الأخيرة لحكومة الكاظمي والتي كان جليا أنّه لن يتم التجديد له، حيث عمد نبيل إلى محاولة التقرب إلى الولائيين من أجل بقائه في المنصب، من خلال السماح لهم بتولّي عدّة مناصب داخل الجامعات.

وشكّلت حصة الولائيين الأكبر سيطرتهم على منصب “معاون العميد للشؤون العلميّة” الذي يسمح لحامله بإصدار تأييد من عدمه لأي نشاط داخل الكليّات، بالإضافة إلى معاقبة الطلبة أو تقرير عدم معاقبتهم في حال ارتكابهم لسلوكيّات تخالف التعليمات الجامعيّة المتعلقة بقانون انضباط الطلبة. مما سمح للولائيين بالسيطرة على الفعاليّات في عدّة كليّات، وتمرير سلوكيّات طلبة ولائيين مخالفة للقانون وعدم محاسبتهم عليها.

وبعد مجيء نعيم العبودي وتولّيه مسؤولية وزارة التعليم العالي كجزء من حكومة محمد شياع السوداني، حصلت التغييرات الإدارية الأكبر في تاريخ الوزارة لصالح الولائيين، إذ عمد نعيم العبودي المعروف بانتمائه إلى ميليشيا “عصائب أهل الحق” وكونه المتحدث الرسمي باسمها ونائبا عنها، بالإضافة إلى توليه مسؤولية الإشراف العقائدي على الحركة، إلى دعم سلوكيات أبناء المهندس، بل واستمرارها بنهج إداري بالإضافة إلى النهج الطلّابي الذي ينتهجونه.

ورغم المكاسب الكبيرة التي حققتها العناصر الموالية لإيران داخل إدارة الجامعة، لا يوجد هناك قبول أو أي نوع من أنواع الاستحسان لدى الطلبة تجاه ما يقوم به تجمّع أبناء المهندس أو أي من التغيّرات الإدارية التي تحيط بهم.

العرب