عاد مشروع التطبيع التركي السوري ليتصدّر جدول الأعمال مع المساعي الجديدة لتحريك المياه الراكدة في مسار الحوار الثنائي بعد مرور عامٍ ونصفٍ على انطلاقه برعاية روسية. تُظهر رسائل الانفتاح المتبادلة في الآونة الأخيرة أن فكرة التطبيع أصبحت تحظى باهتمام متزايد لدى الطرفين، ولدى روسيا الراعية الرئيسية لهذا المسار.
على الرغم من أن اندفاعة أنقرة نحو التطبيع تتفوق في الظاهر على اندفاعة دمشق، فإن تخلي دمشق عن شرط الجدول الزمني للانسحاب التركي من سوريا واستبداله بمطلب الالتزام بالانسحاب وسيادة الأراضي السورية، يُشير إلى أن رغبة الرئيس بشار الأسد بتطبيع العلاقة مع تركيا لا تقل في الواقع عن رغبة الرئيس رجب طيب أردوغان لاعتبارات مُختلفة.
من أهم هذه الاعتبارات المزايا المفترضة للتطبيع، مثل: تعزيز شرعيته الخارجية والمكاسب الاقتصادية التي يُمكن أن تُشكل طوق نجاة للاقتصاد السوري المُنهك.
مع ذلك، فإن مبادرة كل من أردوغان والأسد إلى إظهار نوايا التطبيع بالتوازي مع تحديد توقّعاتهما المُختلفة منه، تُشير إلى أن هذه العملية ستكون مسارًا طويلًا ومليئًا بالألغام، ولا يُمكن أن تصل إلى وُجهتها النهائية بدون تقديم تنازلات من الطرفَين.
بينما بادرت تركيا إلى طرح توقّعاتها من التطبيع والمتمثلة بقبول دمشق التعاون معها في معالجة هواجسها الأمنية إزاء مشروع الحكم الذاتي لوحدات حماية الشعب الكردية، وارتباطها بحزب العمال الكردستاني المحظور، وتوفير بيئة مناسبة لإعادة اللاجئين السوريين لديها إلى بلدهم، أو القسم الأكبر منهم، ودفع عملية الحل السياسي للصراع، فإنها رهنت استعدادها لبحث إمكانية الانسحاب من سوريا بتحقيق هذه الأهداف.
في المقابل، حددت دمشق توقّعاتها العريضة المتمثلة بانسحاب القوات التي تتواجد بشكل “غير شرعي” والعودة إلى الوضع الذي كان سائدًا قبل اندلاع الصراع في عام 2011. يبدو التوقع الأخير أكثر حساسية؛ لأنّه يُرهن التطبيع بشرط جديد يتمثل بقبول تركيا مبدأ العودة إلى ما قبل 2011، على الرغم من أن تدخلها العسكري في سوريا بدأ بعد ذلك بخمس سنوات.
يعني هذا الشرط عمليًا أنه سيتعين على أنقرة الانخراط في جهود “تصفية” الصراع، وليس تسويته وفق المبادئ التي ينص عليها قرار مجلس الأمن الدولي 2254. والواقع أن تركيا أيضًا أصبحت أكثر ميلًا لتقبل هذا التوقّع مع تغليفه بفكرة المصالحة بين النظام والمعارضة؛ بهدف تطويره إلى عملية إصلاح سياسي.
يبدو مطلب دمشق تحديد الانسحاب التركي كأساس لعودة طبيعية للعلاقات التركية السورية تحصيلَ حاصلٍ، إذ لا يُمكن تصور مثل هذه العودة مادام أن القوات التركية موجودة في سوريا. يظهر مشروع التطبيع على أنه مُصمّم لكي يكون على مراحل مُتدرجة، وصولًا إلى التطبيع الكامل الذي لا يُمكن أن يتحقق بدون إنهاء الصراع.
حقيقة أن ارتهان التطبيع الكامل بإنهاء الصراع تُشير إلى العقبات الكبيرة التي تواجه مشروع التطبيع، وهي لا تقتصر على صعوبة إعادة ترميم العلاقة بين أردوغان والأسد بعد ما يقرب من عقدٍ ونصفٍ من العداوة، أو على إشكالية الوجود التركي في سوريا، وتعقيدات التعاون الثنائي في ملف الوحدات الكردية.
النظر إلى التطبيع من منظور العلاقات التركية السورية حصرًا لا يُساعد في فهم دوافعه الكاملة، ولا في تقدير آثاره الواسعة على الصراع أولًا، وعلى مستقبل النفوذ الإقليمي والدولي على سوريا ثانيًا، وعلى الجغرافيا السياسية الإقليمية ثالثًا. وهنا تبرز أهمية العاملين الإيراني والأميركي كعقبة مُحتملة أمام التطبيع، لأنّه – في حال تحقق – سيُعيد رسم خريطة النفوذ الإقليمي والدولي في سوريا في حقبة ما بعد الحرب.
اشترك في
النشرة البريدية الأسبوعية: سياسة
حصاد سياسي من الجزيرة نت لأهم ملفات المنطقة والعالم.
البريد الالكتروني
اشترك الآن
عند قيامكم بالتسجيل، فهذا يعني موافقتكم على سياسة الخصوصية للشبكة
محمي بخدمة reCAPTCHA
فكرة العودة إلى المفاوضات الثنائية مرّة أخرى للتأسيس لحقبة التطبيع، لن تكون مُجدية تمامًا إذا لم تأخذ بعين الاعتبار هذين العاملين على وجه الخصوص، لأن كلًا من طهران وواشنطن تمتلكان القدرة على محاولة عرقلة مسار التطبيع إذا وجدتا أنه سيُضعف سياستهما في سوريا.
بمعزل عن المؤثرات المُحيطة بمشروع التطبيع، فإن فرص نجاحه تتوقف بالدرجة الأولى على ما إذا كان أردوغان والأسد مستعدَّين لدفع التكاليف المترتبة عليهما مقابل الحصول على مزاياه. يظهر الاعتراف بهواجس تركيا الأمنية، وما يعنيه من إضفاء مشروعية على الوجود العسكري التركي في سوريا إلى حين انتهائه، وإعادة تصميم الجانب الأمني في العلاقات التركية السورية المستقبلية، كأحد الأثمان الكبيرة التي سيتعين على الأسد دفعها.
مع ذلك، فإن الأثمان على الجانب التركي تبدو مضاعفة، وليس أكبرها حجمًا الانخراط في عملية لإنهاء الصراع لا تُلبي طموحات المعارضة ولا البيئة الحاضنة لتركيا في شمال سوريا. من غير المتصور أن تتخلى أنقرة عن علاقتها بالمعارضة، أو عن دورها في سوريا قبل تحقيق أهدافها؛ لأن هذه العلاقة وهذا الدور سيظلان ركيزة أساسية لسياستها في سوريا.
لكنّ مُتطلبات التطبيع تفرض تصميمًا جديدًا لهذه العلاقة ولوظائف هذا الدور. قد تكون المزايا المتصورة في أنقرة ودمشق للتطبيع تستحق مثل هذه التكاليف، لكنّ المؤكد أن الوصول إلى التطبيع لن يكون إلا عبرها. يُظهر تحول الخطاب السياسي التركي إزاء الأسد والصراع وسبل معالجته، أن أنقرة تُدرك أن التطبيع لن يكون بدون ثمن.
إن الظروف الراهنة المحيطة بمشروع التطبيع التركي السوري تبدو مناسبة جزئيًا لنجاحه أكثر من أي وقت مضى، لكنّ الرهانات على نجاحه تنطوي على مخاطر الفشل. ولا يزال من الصعب تقدير ما إذا كانت مزايا التطبيع، إن بالنسبة لأنقرة ودمشق أو بالنسبة للفاعلين الخارجيين المؤثرين والمتأثّرين في هذه العملية، ستتفوق على العقبات المحتملة.
مع ذلك، فإن مشروع التطبيع – إن قُدر له النجاح – ستتجاوز آثاره إعادة تصميم العلاقات التركية السورية إلى نقل سوريا لحقبة ما بعد الحرب، وتحديد دورها في الجغرافيا السياسية الإقليمية.