ثلاثة ثوابت في المسار الإسرائيلي، سياسة الاغتيالات واستراتيجية “جز العشب” وشن حرب لتأخير حرب أخرى. مسلسل الاغتيالات طويل جداً من اغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت إلى اغتيال القائد العسكري في “حزب الله” فؤاد شكر في حارة حريك، ورئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران. واستراتيجية “جز العشب” هي القتل المنهجي المتكرر للمقاتلين والمدنيين منعاً لصعود مقاومة جديدة. والحرب لتأخير حرب هي بلغة رئيس الأركان الحالي الجنرال هرتسي هاليفي “خلق فجوة أطول” بين الحروب التي لا يمكن أن تحل المشكلة، لكن كل هذا هو هرب من مواجهة الحقيقة، “لا شيء يلغي قضية فلسطين ولا قوة تستطيع القضاء على الشعب الفلسطيني”.
لم تبدل الاغتيالات سوى الأسماء التي لها بدائل، من مؤسس “حماس” الشيخ أحمد ياسين إلى إسماعيل هنية مروراً بعبدالعزيز الرنتيسي. ومن الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ عباس الموسوي إلى فؤاد شكر مروراً بعماد مغنية وحسان اللقيس. و”جز العشب” أدى إلى مفعول معاكس فخلق مقاومة أقوى وأشد صلابة بدل إضعاف المقاومة. أما الحرب لتأخير حرب، فإنها تقود عملياً إلى حرب أكبر وأخطر على إسرائيل.
والسؤال الآن ليس عن الرد على الاغتيالات فهو حتمي، بل عن نوعيته وحجمه. والكل مشغول بالقراءة في حسابات بنيامين نتنياهو كما في حسابات إيران و”حزب الله” ومجمل “محور المقاومة”. نتنياهو مستعد لإحراق المنطقة من أجل الحفاظ على رأسه ومشروع إسرائيل من البحر إلى النهر. ولا مخرج له من حرب غزة التي فشل في تحقيق أهدافه عبرها على رغم حرب الإبادة إلا بتوسيع اللعبة. فلا الجرأة على تحدي الجمهورية الإسلامية في طهران باغتيال هنية وتحدي “حزب الله” في الضاحية التي توصف بأنها “طهران الصغرى” باغتيال فؤاد شكر سوى محاولة لدفع إيران إلى التورط مباشرة في الحرب بدل الاكتفاء بالفصائل الموالية لها.
ولعل ما سبق في التقدير مسعى لتوريط أميركا في الحرب. ومتى؟ في أصعب توقيت، عشية انتخابات رئاسية تبدو بين “أعداء” أكثر منها بين شركاء في وطن على خلاف سياسي. رئيس خرج من السباق الرئاسي وصار “بطة عرجاء” كما يقال في واشنطن. ومرشح جمهوري طامح للانتقام والعودة إلى البيت الأبيض. وهما يتسابقان على دعم إسرائيل بصرف النظر عن خلاف جو بايدن وكمالا هاريس مع نتنياهو. ولا أحد يعرف كيف تتطور الأمور وما يمكن أن تقود إليه الحسابات الخاطئة، وإن بدت واشنطن وطهران حريصتين على الإعلان أنهما لا تريدان الانجرار إلى حرب شاملة.
ذلك أننا عملياً ومنذ التحريك في “وحدة الساحات” في حرب ذات طابع إقليمي، لا أننا على الطريق إلى حرب إقليمية. وما تتحرك المنطقة نحوه حالياً هو “مرحلة جديدة” في حرب ذات طابع إقليمي. حرب أكبر من غزة والاستنزاف عبر “وحدة الساحات” في حرب “الإسناد”. حرب أكبر من نتنياهو وإسرائيل. والسؤال هو، أي أفق سياسي للمرحلة الجديدة؟ نتنياهو يخوض حربه للهرب من أي أفق سياسي بعدها بالنسبة إلى “حل الدولتين” مفاخراً بأنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية. والكنيست أقر مشروعاً بأكثرية 68 صوتاً ضد قيام دولة فلسطينية بحجة أنها “خطر وجودي” على إسرائيل ويمكن أن تتحول بسرعة إلى “قاعدة إرهابية”. ونتنياهو ادعى أمام الكونغرس الأميركي الموصوف بأنه “أرض محتلة إسرائيلياً” بأن بلاده تخوض الحرب بالنيابة عن أميركا والغرب، لكنه يطلب عملياً أن يحارب الغرب نيابة عن إسرائيل.
ولا شيء يوحي أن القرار في طهران و”محور المقاومة” هو الذهاب إلى حرب شاملة. وهذا ما يغري نتنياهو بالاندفاع إلى الحد الأقصى في التحدي. وليس صحيحاً بصرف النظر عن الادعاء أن إسرائيل جاهزة لخوض حرب شاملة. هي تراهن على قرار أميركي غير مضمون مثل سمك في بحر، وإن كان وزير الدفاع لويد أوستن أعلن أن بلاده ستدافع عن إسرائيل إذا هاجمها “حزب الله”. وليس واضحاً إمكان تكرار ما حدث في أبريل (نيسان) الماضي عندما تصدت أميركا وبريطانيا وفرنسا لمئات الصواريخ والمسيرات التي أطلقتها إيران على إسرائيل رداً على قصف تل أبيب للقنصلية الإيرانية في دمشق ومصرع عدد من قادة فيلق القدس التابع للحرس الثوري.
والجرح عميق، لكن من الصعب تصور الرد الإيراني المنسق مع ردود الفصائل في اليمن والعراق وسوريا ولبنان خطوة من ضمن خطوات مخطط لها على الطريق إلى “إزالة إسرائيل” من على الخريطة. هو مرحلة متقدمة في الضغط على إسرائيل لوقف الحرب على غزة والتسليم ببقاء “حماس” فيها. والواقع أن كل ما يحدث هو من مضاعفات “هجوم حماس” يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. فالعملية كشفت أمرين لهما ذيول واسعة. أولهما هشاشة الأمن الإسرائيلي على رغم الجيش القوي والتكنولوجيا العسكرية المتطورة ثم عجز الجيش عن تحقيق “نصر” في غزة وحدها على مدى 10 أشهر حتى اليوم. وثانيهما “إنهاء الرؤية الأميركية الخاطئة لما قبل هجوم “حماس” والحاجة إلى استراتيجية أميركية جديدة للشرق الأوسط مرتبطة بالحقائق التي تجاهلتها واشنطن “كما جاء في مقال والي نصر وماريا فانتامي في ’فورين أفيرز‘”. ومن الحقائق التي تجاهلتها أميركا وكانت “أكبر خطأ هي التصور أن واشنطن قادرة على تجاهل قضية فلسطين”.
وما نشاهده ليس حرب اغتيالات بل اغتيالات خلال حرب. حرب تغيب عنها العواصم العربية التي قاتلت في الماضي حتى حرب 1973. حرب تطرح أسئلة عن ثغرات أمنية في طهران والضاحية لا بد من تحقيقات حولها لسد الثغرات. وعلى كثرة السيناريوهات حول المنطقة، فلا أحد يعرف كيف سيكون المشهد الإقليمي بعد المعارك. معارك عمليات مفتوحة في حرب ذات طابع إقليمي.