يقوم أربعة خبراء من معهد واشنطن بتقييم حسابات إسرائيل وراء شن مثل هذه الهجمات البارزة في هذا الظرف الحالي، وآثارها المحتملة على المحادثات المتعلقة بالرهائن في غزة، وحاجة إيران المحتملة لرد عسكري لحفظ ماء الوجه، وغيرها.
للوهلة الأولى، يبدو أن القاسم المشترك الوحيد بين عمليتي الاغتيال اللتين هزتا الشرق الأوسط هذا الأسبوع، واستهدفتا القائد البارز في “حزب الله” فؤاد شكر في غارة إسرائيلية في 30 تموز/يوليو على بيروت، ورئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في هجوم لم يتم تبنيه بعد في طهران بعد ساعات، هو أن الرجلين كانا عضوين بارزين في ما يطلق على نفسه تسمية “محور المقاومة” الإيراني. ومن الأسهل تفسير الغارة على شكر. فقد حمّلته إسرائيل مسؤولية الهجوم الصاروخي الذي وقع في 27 تموز/يوليو وأدى إلى مقتل اثني عشر طفلاً في مجدل شمس. لكن بينما تجاوز هذا الهجوم العديد من الخطوط الحمراء، لم تُرِد إسرائيل مع ذلك إشعال حرب شاملة مع “حزب الله”، ومن هنا فضلت توجيه ضربة هادفة تفرض ثمناً واضحاً (إصابة قائد بارز في قلب بيروت) مع تجنب عملية واسعة النطاق وخسائر في صفوف المدنيين. ويطرح هذا النهج السؤال التالي على “حزب الله”: “ماذا بعد؟”، بينما يُظهر أن إسرائيل لا تزال تمتلك معلومات استخباراتية متفوقة عن الحزب وتحركاته.
وكان مقتل هنية أكثر إثارة للدهشة، ويعود ذلك جزئياً إلى أنه كان المحاور الرئيسي لقطر في المحادثات الجارية لإطلاق سراح الرهائن الذين تم احتجازهم في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأيضاً إلى تواجده في إيران في ذلك الوقت. ولم تعترف إسرائيل بأنها نفذت الهجوم وسط مدينة طهران (باستخدام قنبلة زرعت قبل أسابيع وفقاً لبعض التقارير)، لكن طبيعة العملية وهوية الهدف تشيران في اتجاهها. ويُعتبر اغتياله هناك أمر مهين للغاية بالنسبة لإيران. فقد التقى هنية بالمرشد الأعلى علي خامنئي في وقت سابق من ذلك اليوم وكان في المدينة لحضور حفل تنصيب الرئيس مسعود بزشكيان. وستؤدي هذه المشاهد المحرجة إلى ممارسة ضغوط كبيرة على النظام لينتقم بطريقة أو بأخرى.
وببساطة، يُعتبر مقتل شكر أمراً مفهوماً ويسهل تبريره لأي شخص مطلع على خلفيته العملياتية والحملة الإسرائيلية القائمة منذ وقت طويل ضد شخصيات مماثلة في “حزب الله”، بينما يبدو اغتيال هنية أكثر غموضاً للوهلة الأولى. صحيح أن تحميل جميع زعماء “حماس” المسؤولية عن الفظائع التي ارتكبت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر قد يعكس قناعة عامة بين الإسرائيليين، إلا أن هنية كان يسافر كثيراً، مما أتاح فرصاً عديدة لاستهدافه، وبالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا الآن، ولماذا في طهران؟
ربما تكمن الإجابة في رغبة إسرائيل في إعادة ترسيخ صورة لما يمكن أن تفعله بأعدائها. فقد أدت عشرة أشهر من الحرب في غزة إلى تراجع صورة القوة العسكرية الإسرائيلية في الشرق الأوسط. ومن خلال قتل شخصيتين كبيرتين من مسافة قريبة، في موقعين بارزين، واستخدام قدرات عسكرية واستخباراتية واضحة لا تمتلكها أي جهة أخرى في المنطقة، ربما كانت إسرائيل تأمل في إعادة تأكيد قوتها بأسلوب دراماتيكي. ووفقاً لهذا النهج من التفكير، كان لزاماً على إيران و”حزب الله” و”حماس” أن يعرفوا أن إسرائيل قادرة على قتل أي شخص يهدد مواطنيها بشكل مباشر أو يجيز شن هجمات عليهم، مع توجيه رسالة شاملة مفادها أنه ليس هناك شخص أو مكان بعيد عن متناولها. ويتمثل الهدف العملي لمثل هذا النهج في جعل الردع مسألة شخصية، أي العمل بأن يكون القادة الأفراد وغيرهم من كبار الشخصيات على علم بأنهم يعرضون حياتهم لخطر مباشر بمجرد التخطيط لهجمات على الإسرائيليين أو الموافقة عليها.
هل تجرى الحسابات وفقاً لتقديرات إيران؟
بغض النظر عن رغبة إسرائيل في إعادة ترسيخ قوة الردع، لا يزال يتعين على القادة في القدس وواشنطن التفكير في الطريقة التي من المرجح أن ترد بها إيران و”حزب الله”. صحيح أن عمليات القتل المستهدفة هذا الأسبوع يمكن أن تجعل إيران و”حزب الله” يفكران بعناية أكبر في كيفية التجاوب مع دعوة طهران القائمة منذ وقت طويل لإنشاء “طوق من النار” حول إسرائيل، لكن حتى لو قررا أن يصبحا أكثر حذراً على المدى الطويل، فمن المرجح أن يقوما بالرد على المدى القريب، مما يزيد بشكل كبير من خطر حدوث المزيد من سوء التقدير.
وبالنسبة لإيران، يستدعي مقتل هنية جواباً شافياً كونه حدث في طهران، مما يعني ضمناً أن النظام لا يستطيع حماية ضيوفه وحلفائه في “المحور”. وبالنسبة لـ”حزب الله”، لا يُعد مقتل شكر مسألة إذلال بقدر ما هو تذكير بنقاط ضعفه الحرجة. وهو، على غرار إيران، سيبحث باهتمام شديد عن التسريبات والجواسيس في أجهزته الاستخباراتية والأمنية في الأيام المقبلة. لكنه سيرغب أيضاً في فرض ثمن على إسرائيل عاجلاً وليس آجلاً. ولا يبدو أن طهران ولا وكيلها الرئيسي يريدان حرباً مع إسرائيل، لكن من الضروري لهما أيضاً أن يتجنبا الظهور بمظهر الضعيف.
أما بالنسبة لنوع الانتقام الذي قد يشنانه، فليس لديهما القدرة على تنفيذ هجمات دقيقة مماثلة على شخصيات إسرائيلية رفيعة المستوى. لكن يمكنهما مهاجمة إسرائيل بوابل من الصواريخ والقذائف. ومن المرجح أن تقوم إيران بتنسيق وابل من الهجمات المتزامنة من جانب “حزب الله” والحوثيين في اليمن والميليشيات التابعة لها في العراق، على أمل أن تبلغ بعض الذخائر هدفها المنشود، أو على الأقل أن تُستنفد مخزونات الدفاع الجوي الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك، بعد فشل الهجوم الإيراني المباشر ضد إسرائيل في 13 نيسان/إبريل في ردع الهجمات داخل إيران، قد يقرر النظام مرة أخرى تنفيذ ضربات من أراضيه. فقد تضمن هجوم نيسان/إبريل جولة واحدة من الضربات بالصواريخ الباليستية وصواريخ كروز، وبالتالي من المرجح أن تفكر طهران في القيام بجولات متعددة هذه المرة لإثبات أنها في صدد التصعيد.
والنقطة هنا هو أنه يجب على إسرائيل وحلفائها أن يأخذوا بعين الاعتبار مجموعة كاملة من الخيارات التي قد تفكر إيران باعتمادها. على أكثر تقدير، ستدفع طهران “حزب الله” إلى مهاجمة مجموعة أكبر من الأهداف في إسرائيل مما كان يمكن أن يحدث لو قُتل شكر فقط. وهذه المرة، قد يحاول المحور إثبات مستوى أكثر فعالية من التنسيق والتعاون.
إلى أين تتجه محادثات وقف إطلاق النار في غزة؟
على الصعيد الدبلوماسي، من المرجح أن تطلب طهران من “حماس” وقف جميع التحركات من أجل التوصل إلى اتفاق بشأن الرهائن ووقف إطلاق النار لتجنب إعطاء الانطباع بأن الضربات الإسرائيلية والضغط العسكري قد نجحا. وهذا لا يعني أن الصفقة لن تؤتي ثمارها قط، لكن التأخير شبه مؤكد.
وفي إسرائيل، فإن القرار بقتل هنية يقلل إلى حد كبير من فرص قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالتنازل عن شروطه فيما يتعلق بصفقة الرهائن، خاصة الآن بعد أن أصبح من المرجح أن تتشدد “حماس” في شروطها. وفي الأسابيع الأخيرة، ظهرت نظريتان متنافستان حول كيفية تعامله مع قضية الرهائن. وتتلخص إحدى هاتين النظريتين في أنه سيصبح أكثر مرونة الآن بعد أن بدأ الكنيست الإسرائيلي عطلة مدتها ثلاثة أشهر، وأصبح بمأمن مؤقتاً من التصويت البرلماني بحجب الثقة بقيادة أعضاء اليمين المتطرف في ائتلافه، الذين يعارضون أي تسوية مع “حماس”.
أما النظرية الثانية فتعتبر أن موقفه المتصلب هو أكثر من مجرد خطاب. فهو لن يقبل فعلياً بصفقة ما لم يتم إضعاف “حماس” عسكرياً بما فيه الكفاية. ووفقاً لهذا النهج من التفكير، يعتزم مواصلة السيطرة المادية على ممرين في غزة يعتبرهما أساسيين لمنع “حماس” من إعادة تشكيل نفسها أو إطلاق وابل من الصواريخ في المستقبل ضد إسرائيل: “ممر نتساريم” في الجزء الشمالي من القطاع و”محور فيلادلفيا” على طول الحدود المصرية.
ويبدو أن الهجوم على هنية يعزز النظرية القائلة بأن نتنياهو لن يتنازل عن شروطه فيما يتعلق بصفقة الرهائن، على الرغم من أن زعيم “حماس” الأبرز على الأرض، يحيى السنوار، قد رفض هذه الشروط بشدة. وفي الواقع، لم يبدِ نتنياهو أي إشارة إلى استعداده لتقديم تنازلات عندما التقى بالرئيس بايدن في واشنطن الأسبوع الماضي. وبدلاً من استغلال رئيس الوزراء لعطلة الكنيست كفرصة للتوصل إلى تسويات صعبة، ظهرت دلائل تشير إلى أن نتنياهو قد يأذن بشن المزيد من الهجمات على كبار الشخصيات في “حماس”. (تجدر الإشارة إلى أن الجهود التي بذلتها إسرائيل في الماضي للقضاء على الحركة من خلال استهداف قادتها فشلت مراراً وتكراراً في تحقيق هذا الهدف، كما رأينا في عمليات اغتيال مؤسس “حماس” أحمد ياسين، وخلفه عبد العزيز الرنتيسي، والقائد العسكري أحمد الجعبري، التي وقعت منذ فترة طويلة).
من غير الواضح ضمن قيادة “حماس” الأوسع نطاقاً ما إذا كانت وفاة هنية ستوقف أو ببساطة ستؤخر الاتصالات مع إسرائيل بشأن قضية الرهائن. فقد كان عنصراً رئيسياً في تلك المفاوضات نظراً لعلاقاته مع قطر، ولكن من المتوقع أن تحل محله شخصية أخرى من “حماس” في مرحلة ما (على الرغم من أن هناك تحذيرات معينة ترتبط بكل من المرشحين المحتملين. فخالد مشعل سيواجه معارضة من إيران، التي تريد شخصية أكثر تشدداً، بينما يفتقر موسى أبو مرزوق إلى الدعم بين صفوف “حماس”). وتجدر الإشارة إلى أن عمليات الاغتيال السابقة التي شهدها هذا العام لقادة آخرين من “حماس” مثل مروان عيسى، ومحمد الضيف، وصالح العاروري، لم تمنع استئناف المحادثات. ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا هو الحال بعد وفاة هنية. على أقل تقدير، ستتعرض عملية الانتقال للعرقلة بسبب التحدي اللوجستي المتمثل بانعقاد المكتب السياسي في زمن الحرب لاختيار خليفة دائم.
وفيما يتعلق بالحسابات العسكرية لـ “حماس”، ظهر نائب السنوار، خليل الحية، في مؤتمر صحفي في طهران بعد مقتل هنية، وقال: “الحركة وإيران لا تريدان حرباً إقليمية لكن هناك جريمة يتعين معاقبة مرتكبها”. ويتناقض هذا التصريح مع الهدف الأصلي الذي حددته “حماس” والسنوار بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهو جر إسرائيل إلى حرب إقليمية متعددة الجبهات. وربما اختار الحية هذه الصياغة لاسترضاء مضيفيه في طهران.
وفي أماكن أخرى من الساحة الفلسطينية، تم تنظيم مسيرات بسرعة في الضفة الغربية والقدس الشرقية بعد ورود نبأ مقتل هنية، تم فيها الدعوة للسكان إلى دعم “حماس” والتوحد ضد إسرائيل. وبعد ساعات قليلة من مقتله، أعلنت “حماس” مسؤوليتها عن هجوم عبر إطلاق نار وطعن بالقرب من مستوطنة كريات أربع اليهودية، ووصفته بأنه رد على الهجوم على طهران. لكن لا يزال من غير المرجح حدوث انتفاضة أوسع نطاقاً. كماأدان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مقتل هنية، رغم أنه ينظر بصورة غير علنية إلى “حماس” بأنها تشكل تهديداً ولطالما رحب بأي تطور من شأنه إضعاف الحركة.
التأثير على المصالح الأمريكية؟
أما بالنسبة لكيفية تأثير عمليات الاغتيال التي وقعت هذا الأسبوع على العلاقة الثنائية مع واشنطن، فربما سعت إسرائيل إلى التأكيد على أن الولايات المتحدة لن تتمكن من ردعها. وفي هذه الحالة، لم يكن المقصود من هذه الرسالة أن تشكل تحدياً لأقرب حلفائها، بل وسيلة أخرى لإعادة فرض الردع تجاه إيران و”حزب الله”. ربما يمكن لمثل هذا النهج الحازم والمثير للدهشة أن ينجح على المدى الطويل، لكن لا ينبغي أن يكون لدى نتنياهو ولا الرئيس بايدن أي أوهام بشأن ما قد تفعله إيران و”حزب الله” على المدى القريب.
وفي الأيام المقبلة، ستركز إدارة بايدن بطبيعة الحال على منع تصعيد النزاع. ولكن من المفارقات أن خوف إيران من جر أمريكا إلى القتال يشكل الوسيلة الفضلى للتخفيف من حدة الإجراءات التي قد يتخذها النظام بعد ذلك، وبالتالي ينبغي على الإدارة الأمريكية أن تستغل هذا الخوف لصالحها. وقد يشير التصعيد الحالي في الخطاب الإيراني ضد الولايات المتحدة إلى أن طهران تريد ردع إسرائيل بشكل غير مباشر عن الرد بقوة على أي انتقام من المحور من خلال زيادة خطر التصعيد على نطاق أوسع. من هذا المنطلق، وبعد أن أوضحت إسرائيل وجهة نظرها، يجب عليها الآن أن تأخذ المصالح والمخاوف الأمريكية في الاعتبار.