د. عبدالمنعم المشاط
تثير ردود الفعل العربية الشاحبة تجاه حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة والإرهاب المنظم والمدعم من حكومة إسرائيل ضد الضفة الغربية والتوسع الاستعمارى فى القدس الشرقية وفلسطين المحتلة أسئلة عديدة بشأن الشباب العربى واتجاهاته السياسية إزاء القضية الفلسطينية ومستقبل الشعب الفلسطينى بل ومستقبل العرب أنفسهم، وكان الشباب العربى فى الماضى مستهدفا من مؤسسات التنشئة السياسية التقليدية كالأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد والكنيسة والنادى والخدمة العسكرية والإعلام وما شابه، ولما كانت تلك المؤسسات محافظة فيما تبثه فى نفوس الشباب فقد ساد الاعتقاد بانصرافهم عن القضايا القومية وخاصة الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين والأراضى العربية، وتعزز هذا الاعتقاد حيثما بدأ التركيز على القضايا القطرية وحدها، واستمر هذا التوجه إلى أن حدث تطوران زلزلا حياة الشباب العربى ودفعتاه إلى الانتفاض ضد وسائل وأدوات التنشئة التقليدية والانقضاض عليها، والانصراف عنها.
ما أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعى وتوغلت فى المدائن والغفائر حتى انخرط فيها واندمج معها المواطن، وتحول من مواطن محلى منكفء على الذات إلى مواطن كونى تعززت فيه روح الإنسان الحقيقية والتى تعنى وتعلى من قيم الإنسانية التى لا تعرف الحدود وتتخطى السيادة التقليدية إلى العالم الأرحب، وتحول الشباب من مستهلكين للأنباء إلى مشاركين دون خوف أو ضجر من سلطة أعلى تملى عليهم ما يقرأون وما يسمعون وما يشاهدون، وانتقلت التفاعلات الشبابية إلى الشباب الكونى فى الشرق والغرب والشمال والجنوب، وصار الشباب أول من تصله الأخبار والأحداث وأول من يتفاعل معها، من ثم تخطت اهتمامات وطموحات الشباب الحيز الوطنى المهم بالقطع إلى الاهتمام بالقضايا الدولية خصوصا إذا كانت تمس ظروفهم الحياتية ومستقبلهم القادم.
ولقد فجرت حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين فى غزة والإرهاب الصهيونى الحكومى والشعبى ضد الضفة الغربية والقدس الشرقية والتغطية العالمية المكثفة لها وما ارتبط بها من انحياز مطلق من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا ودول عديدة لإسرائيل بل والمشاركة معها بالعتاد والأشخاص ضد الفلسطينيين والفلسطينيات العزل، فجرت اهتماما أصيلا وأسى نفسيا لدى الشباب العربى، وقد بدأ جزء منه فى حملات مقاطعة المنتجات والشركات والأطعمة والمشروبات التى تنتجها شركات منحازة إلى إسرائيل، ولقد حدثت وقائع حية وكثيرة لشباب ومراهقين عرب يتناقشون مع ذويهم وأسرهم فى أهمية المقاطعة باعتبارها الحد الأدنى الممكن للتعبير عن غضبهم واشمئزازهم من المناصرين لإسرائيل فى حرب التوسع وبناء إسرائيل الكبرى.
قاد الشباب والمراهقون العرب حملات المقاطعة فى كل أنحاء الوطن العربى، وقد أصاب ذلك المؤسسات الصهيونية الإسرائيلية بصدمة مؤكدة، وقد كان أحد أهداف الحرب تأليب شباب العرب ضد حماس وشقيقاتها من منظمات المقاومة الفلسطينية، بيد أن الإرهاب الإسرائيلى الصهيونى فجر موجة قوية من الانبهار بأساليب المقاومة الفلسطينية ومثابرتها تحت الأرض لمقاومة الإرهاب الإسرائيلى. ونجحت المقاومة الفلسطينية فى مد الحرب إلى أشهر عديدة كلفت الجيش الإسرائيلى قتلى وجرحى بالمئات، ودحضت نظرية الأمن القومى الإسرائيلى التى بنيت على الحرب الخاطفة، وهكذا توافقت مواقف وآراء الشباب العربى دون أن يلتقوا فى مؤتمر أو ورشة عمل ضد إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة.
ومما ساند شباب العرب، تلك الصحوة التاريخية التى هبت على شباب الغرب والولايات المتحدة لمناصرة فلسطين وشعبها المسالم خصوصا شباب الجامعات الكبرى فى الولايات المتحدة، بعضهم قام بمظاهرات عامة فى شوارع المدن الكبرى وبعضهم تمركز فى جامعات هارفارد وجنوب كاليفورنيا وتكساس وكولومبيا ونيويورك وعشرات الجامعات، إلى الحد الذى دفع بالكونجرس الأمريكى لمهاجمة رؤساء جامعات كبرى ومساءلتهم، وحثهم على التعامل بشدة مع المساندين معنويا للشعب الفلسطينى والذين ينتقدون ويهاجمون آلة الحرب الصهيونية، وصدر قانون جديد يعتبر أن انتقاد إسرائيل يعد جريمة معاداة السامية، ولقد انبهر الشباب العربى بما شاهدوه من تحمل الشباب الأمريكى والأوروبى وكذلك الأساتذة من تعنت وعنف الشرطة فى تلك البلدان، مما خلق روحا من الإعجاب من ناحية، والتعاطف من ناحية أخرى، وفى خضم كل ذلك تابع الشباب العربى المواقف الأمريكية المساندة مساندة مطلقة لإسرائيل سواء فى مجلس الأمن أو تقديم الدعم المالى والعتاد والسلاح لإسرائيل، كما تابعوا تهديدات الكونجرس لقضاة محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية لقراراتهم الموضوعية ضد الاحتلال والاستيطان الصهيونى فى الضفة الغربية والقدس الشرقية، وطلب اعتقال نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلى.
على الرغم من قسوة مشاهد القتل الجماعى والتهجير القسرى للفلسطينيين والفلسطينيات وبشاعة السلوك الهمجى لأفراد جيش إسرائيل على ذهن شباب العرب. فقد رأيت ولمست نضجا استثنائيا لديهم وإحساسا قوميا كان غائبا ولكنه كان كافيا أخرجته جريمة إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى، نحن أمام مرحلة مفصلية فى الاتجاهات السياسية للشباب العربى ساهمت فى بلورته التطورات آنفة الذكر وغيرها، وعلى الرغم من أن ما ذكرته وما لمسته من الشباب العربى فى عدد من الدول العربية سواء بين الميسورين أو الفئات الأخرى لا يعبر عن الشارع العربى بصورة علمية، فقد يكون الوقت مناسبا لمراكز الأبحاث والدراسات فى الوطن العربى للقيام بدراسات ميدانية لقياس اتجاهات الشباب العربى نحو القضايا القومية وعلاقتها بالقضايا الوطنية والاستبصار بتلك الدراسات حول فهمهم للعالم وما يجرى فيه، ومن المعلوم أن الظروف السياسية المحيطة بأمتنا العربية قد باعدت بين دول بعينها، إلا أن التهديدات الصهيونية الإسرائيلية والتحالف الإسرائيلى الأمريكى يقتضى لم الشمل والوقوف للتامل حول ما يحاك لنا، وسندنا فيما نتخذه من قرارات وما نرسمه من سياسات هم شبابنا، ولهذا تبرز الأهمية القصوى للتعرف على اتجاهاتهم السياسية بالأساليب العلمية المقررة إزاء وطننا ونحو الآخرين.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة