تصاعدت على مدار اليومين الماضيين حدة الأزمة التي تمر بها العلاقات السعودية – الإيرانية منذ فترة بعيدة، على خلفية مجموعة من القضايا الإقليمية محل النزاع بينهما، ويأتي على رأسها الأزمة في سوريا وعدد من القضايا الأخرى مثل العراق، والتحالف العربي الذي تقوده السعودية لاستعادة الشرعية في اليمن.
وتأخذ الأزمة هذه المرة شكل تأجيج للصراع المذهبي في المنطقة إثر اقتحام متظاهرين إيرانيين لمقري السفارة والقنصلية السعودية في كل من “طهران” و”مشهد”، على خلفية تنفيذ “الرياض” حكم الإعدام بحق 47 من المحكوم عليهم في قضايا ترتبط بالإرهاب، ومنهم رجل الدين الشيعي “نمر النمر”، وهو ما ردت عليه السعودية بقطع جميع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران وأمهلت البعثة الإيرانية بالمملكة 48 ساعة للمغادرة.
وقد برز هذا البعد المذهبي مع تصريح المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران “علي خامنئي” بأن “إعدام النمر سيؤدى لانتقام إلهي سيطال الساسة السعوديين”، داعياً العالم الإسلامي لتحمل المسؤولية تجاه هذه القضية، فيما يعد توجيهاً صريحاً لمنتسبي “الباسيج” باستهداف مقرات البعثة الدبلوماسية السعودية في إيران كما حدث لاحقاً.
من جانب آخر، هاجم إمام جمعة “طهران” المؤقت، أحمد خاتمي، الإجراء السعودي، مهدداً بأن “الشيعة في المملكة سيكون لهم رد فعل سيحول دون استقرار الأوضاع بالسعودية”.
وفي مقابل ذلك، انتقد الرئيس الإيراني “حسن روحاني” إقدام متطرفين إيرانيين على اقتحام السفارة والقنصلية السعودية، واصفاً إياه بالعمل غير المبرر، لكنه انتقد في الوقت ذاته إعدام “النمر”، مشيراً إلى كونه إجراء ينتهك حقوق الإنسان والقيم الإسلامية، فضلاً عن كونه مزعزعاً لاستقرار المنطقة.
استمرارية الحالة الثورية
منذ سيطرة النظام الإسلامي في إيران على مقاليد الحكم بعد ثورة 1979 واستقرار الأمور لصالحه بعد تنحية الأسباب الرئيسية والقوى السياسية التي كانت عنصراً حاكماً في الثورة على نظام الشاه، دأب هذا النظام على الترويج لنفسة باعتباره النموذج الأمثل والأجدر بالتطبيق في عموم العالم الإسلامي تحت ولاية المرشد الأعلى – آنذاك– الإمام “الخميني”، والذى وضع المحدد الرئيسي لنظام الحكم الجديد حين وطأت قدماه أرض مطار “مهرباد” بطهران، حين أكد على “أن العرب حكموا الأمة الإسلامية لعدة قرون كما حكمها الأتراك لقرون أخرى، وأنه آن الأوان ليحكمها الفرس”؛ وهو الأمر الذي يؤشر – بل يؤكد – على الماهية الحقيقية لمفهوم الثورة الإسلامية وما يرتبط به من مبدأ “تصدير الثورة”.
وبطبيعة الحال فلن يصمد هذا النهج إلا في حالة استمرار والإبقاء على “الحالة الثورية” التي تتيح للنظام المُضي قُدماً في نهجه ومنهاجه الساعي للتدخل في كافة الشؤون المحيطة به، وإعادة قولبتها في إطار إسلامي حتى تتاح له الفرصة لإيجاد مكان له للتدخل فيها. وأبلغ أدلة ذلك “القضية الفلسطينية”، والتي هي في الأساس ذات بعد قومي، ولذلك عمد النظام الإيراني إلى تفريغ المسألة من بعدها الحقيقي وحاول تأطيرها في بعد إسلامي نظراً لكون إيران دولة غير عربية.
وعلى الرغم من كافة الانتقادات التي يواجهها النظام الإيراني وتدخلاته السافرة في الشؤون الداخلية لدول الخليج العربية التي توجد فيها أقليات شيعية، وكذا بعض الدول بالمنطقة، فإنه في المقابل يرفض جملةً وتفصيلاً تناول مسألة الأقلية السنية في إيران، والتي تمثل حوالي 9% من إجمالي عدد سكان البالغ عددهم نحو 75 مليون نسمة. فأهل السنة في إيران غير مسموح لهم بممارسة حقوقهم في إقامة الشعائر بشكل طبيعي نظراً لما يلاقونه من ممارسات تعسفية من قِبل النظام الحاكم، شأنهم في ذلك شأن باقي الأقليات الدينية الأخرى، وإن كانت الأقليات الأخرى كالمسيحيين واليهود والزرادشت أعظم حظاً من المسلمين السنة.
ولا يرتبط هذ النهج واقعياً بالبعد المذهبي فقط، بل هي سياسة النظام الإيراني تجاه الأقليات بشكل عام، لاسيما تلك التي تمثل قلقاً على النظام وحفاظه على ماهيته، وتحديداً الأقليات من القوميات الأخرى التي تكون إيران، وتجعل تركيبتها ذات طبيعة فسيفسائية كالعرب والآذريين والأكراد والبلوش والتركمان وغيرهم.
ويبلغ الموقف مداه حتى في تسمية الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي يفهم منها كونها دولة إسلامية دون تسمية أو تفرقة مذهبية، في حين أن واقع الأمور يشير إلى غير ذلك؛ فوفقاً لمواد الدستور نفسها، نجد أن المادة 115 من الدستور الإيراني تشترط عدة شروط يجب توافرها في الشخص المرشح لتولي رئاسة الجمهورية، ومنها اعتناقه للمذهب الرسمي للبلاد، حيث ورد نصاً في المادة 12 من الدستور أن “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الإثنى عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير”.
إن هذا الإقرار الدستوري وهذه الحالة الثورية يؤكدان عمق المذهبية المتطرفة وسعيها الدائم لإقرار واقع لا يمكن تبديله. لذا يتدخل النظام الإيراني بشكل سافر في الشأن الداخلي لدول المنطقة التي تتواجد فيها أقليات تعتنق المذهب الشيعي، ويحاول من خلال هذه الأقليات أن يجد لنفسه موطئ قدم له كما هو الحال في كل من سوريا ولبنان واليمن، وكما هو الحال أيضاً في العراق، وإن كان المركب الديموغرافي يختلف فيما يتعلق بالأغلبية المذهبية.
ثلاثة أسباب لرد الفعل الإيراني الحاد
ارتباطاً بما تقدم، فإن المسألة بالنسبة لإيران تتجاوز مسألة إعدام رجل الدين الشيعي “نمر النمر” لما هو أبعد من كونها قضية طائفية بحتة، فهي بالنسبة للنظام الإيراني تأتي في مرتبة “التحدي” لقدرة النظام الإيراني ومنهجه في تبني قضايا الشيعة في العالم باعتبار المرشد الأعلى للثورة الإسلامية هو بمرتبة “الإمام” بالنسبة للمسلمين إذا جرى هذا التناول من زاوية “الإمامة”. وبالتالي، فإن المسألة جاءت – من وجهة نظر النظام الثوري الإيراني – في إطار الإهانة الشخصية للمرشد من ناحية، والاستخفاف بالنظام الإيراني من ناحية أخرى، لاسيما وأن “النمر” من الذين درسوا في الحوزات الدينية في مدينة “قم” بإيران، وبالتالي فهو من المحسوبين عليها.
من زاوية ثانية، فإن الصراع الإيراني – السعودي حول عديد من القضايا في المنطقة انعكس أيضاً بشكل سلبي على رد الفعل الإيراني، خاصةً أن إيران ترى في تراجع نفوذها – الذي استثمرت طويلاً فيه على مدى سنوات – احتمالاً وارداً، بل إنه أصبح أقرب للواقع مع تطور الموقف في كل من سوريا التي تسيطر روسيا على المشهد فيها وتتحكم في الأدوار التي تمارسها الأطراف الفاعلة هناك، وكذلك الحال في لبنان الذي يسعى للاستقرار وإن كان المشهد مازال مرتبكاً بسبب التدخلات الخارجية، فضلاً عن المشهد في العراق الذي رفض فيه مؤخراً أي دور لميليشيات “الحشد الشعبي الشيعي” في تحرير مدينة “الرمادي” والمناطق الأخرى السنية، وهو ما اعتبرته إيران إقلالاً من دورها في العراق في ظل وجود أطراف أخرى منافسة لها هناك. أما في اليمن، وعلى الرغم من اختلاف التقديرات بشأن أحداثه، فإن الثابت والمؤكد هو أن النفوذ الإيراني متراجع فيه وغير قادر على دعم حلفائه.
من زاوية ثالثة، وبعيداً عن التناول السابق، فإن رد الفعل الإيراني – المُبالغ فيه – يرتبط بالوضع الداخلي في إيران، والذي يمكن وصفه بغير المستقر بين العناصر المكونة للنظام هناك. فمع تواتر الحديث عن أهمية الانتخابات المقبلة لمجلس خبراء القيادة وكون هيئته الجديدة هي التي ستكلف باختيار المرشد الجديد الذي سيخلف “خامنئي” الذى يعاني صحياً، فإن الأخير كان عليه إثبات وضعيته الحقيقية وقدرته على توجيه الجموع.
وقد وضح ذلك من ردة الفعل التي أعقبت خطاب المرشد الذي انتقد فيه الإجراء السعودي، وهو موقف تكرر في أحداث سابقة (اقتحام السفارة الأمريكية وأزمة الرهائن – اقتحام السفارة البريطانية)، وهي أمور يقوم بها “الباسيج” بتعليمات مباشرة من المرشد نفسه. وبذلك فإن الجناح المتشدد من النظام سعى لإثبات ذاته، خاصةً أن الجناح المحافظ البراجماتي (المعتدل مجازاً) والذي يمثله الرئيس “روحاني” سعى للترويج لإنجازه فيما يتعلق بالملف النووي ورفع العقوبات باعتباره مسألة عجز النظام عن تحقيقها على مدى سنوات.
وبناءً على كافة هذه المعطيات السابقة، فإنه يتوقع استمرار النظام الإيراني في محاولاته المستمرة للتصعيد الممنهج من خلال تصريحات المسؤولين الإيرانيين التي تهاجم المملكة العربية السعودية، وإن كان ثمة أطراف خارجية، سواء إقليمية أو دولية، سوف تتدخل لتحجيم أي تصعيد متوقع من الطرفين، وتحديداً كل من تركيا والولايات المتحدة، حيث أقدمت الأخيرة بالفعل على المطالبة بالجلوس على مائدة التفاوض، وهو ما تريده بالضبط إيران للتفاوض حول عديد من الملفات، نظراً لرغبة الولايات المتحدة في تسوية الملف السوري واليمني كأولوية، ويليه ملفي لبنان والعراق، وهي ملفات تتقاطع فيهما الأدوار السعودية والإيرانية بشكل يصعب معه التوصل لتسويات دائمة، خاصةً وأن “واشنطن” ترى في ذلك أهمية حيوية لتقويض النفوذ الروسي المتصاعد في المنطقة، لاسيما في سوريا، والذى يرشحه للقيام بأدوار أكثر عمقاً على حساب النفوذ الأمريكي.
مصطفى سالم
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة