لم تتوقف إسرائيل عند الاستهدافات النوعية التي وجهتها لحزب الله بدءا بتفجيرات أجهزة الهواتف واللاسلكي الثلاثاء والأربعاء وصولا إلى اغتيال كوادر فرقة الرضوان الخاصة التي يتباهى بها الحزب، واستمرت في تنفيذ هجمات على قاذفات الصواريخ لإضعاف فرص الرد لدى الحزب مقدمة لتفكيك عناصر قوته، وهو ما يخلق واقعا جديدا تقلب فيه تل أبيب المعادلة ضد إيران خاصة بعد تفكيك حماس.
ويعتقد مراقبون أن استهداف الصف الأول من قوة الرضوان وما سبقه من استهداف للمئات من مسلحي الحزب في تفجيرات البيجر والووكي توكي سيصيب أداء الحزب في مقتل، وأن إعادة ترتيب البيت سيستغرق أسابيع وربما أشهرا، وهو ما يجعل قدراته مكشوفة أمام الهجمات الإسرائيلية خاصة أنه لا يمتلك أيّ إسناد من أيّ جهة في ظل امتناع إيران عن الرد الذي لوّحت به بعد مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية قبل أسابيع، ما أعطى انطباعا بأنها لا تريد المغامرة وأنها تترك مهمة الرد لأذرعها، وخاصة حزب الله، الذي يتعرض لاستهدافات نوعية.
تبدّلت عناوين المعركة لدى الطرفين. فـ«حزب الله» الذي فتح الجبهة على وقع الضربات المحدودة وعمليات «الإشغال»، تجنّب إلى حدّ كبير كسر قواعد الاشتباك، وكان يعتقد، وفق خبراء، أن إسرائيل «لن تغامر في عمليات كبيرة»، وأنه قادر على إرساء «توازن الردع» معها، قبل أن يفاجأ بأن الأخيرة استفادت من تفوقها التكنولوجي ونفّذت عمليات «اغتيال نظيفة» طالت عدداً من قادته الميدانيين من دون أن توسّع عملياتها.
مع هذا التصعيد الإسرائيلي غير مسبوق، قد لا تستطيع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهي الداعم الرئيسي لإسرائيل منذ بداية حربها علي غزة ، ممارسة أي ضغط عليها لارجاعها عن مسارها الحالي الذي بدأت تتحرك فيه صوب جنوبي لبنان، وهو المسار الذي سيكون له نتائج خطيرة على المدى القريب والبعيد على منظومة الأمن الإقليمي في الشرق الاوسط. يفاقم من حدة هذه الأخطار الحالية والمستقبلية في البيئة الإقليمية، عوامل عربية وإقليمية ودولية عديدة ومتشابكة وأن كانت تصب جميعا في النهاية باتجاه مزيد من التصعيد.
يأتي في مقدمة تلك العوامل كلها، إنعدام قدرة بعض الدول العربية في المشرق العربي علي الفعل والتأثير الذي كان يمكن أن يجعل منها رقما مهما حاضرا في الحسابات الاسرائيلية لقرارات الحرب التي تخوضها للعام الثاني علي التوالي، وللمرة الأولى في تاريخ الحروب الإسرائيلية العربية وهي الحرب التي طالت لأن دوافعها وأهدافها تذهب أبعد من غزة بكثير، وقد تؤرخ بها إسرائيل لمرحلة فاصلة من مراحل تاريخها. فإسرائيل ولأول مرة تخوض حربا طويلة وكأنها تؤسس لثقافة سياسية مجتمعية بأن إسرائيل في وسعها تحمل الخسائر على عكس النظرة التقليدية للحروب الإسرائيلية التي كانت تدار في أيام قليلة.
كما غاب صانع القرار السياسي في طهران من الصورة بأسلحة الردع الاستراتيجي العديدة التي يمتلكها ولا يتوقف عن تطويرها، والتي دأب علي التلويح بها واستعراضها باستمرار لردع اسرائيل عن مهاجمته، فصانع القرار الذ بقود محورًا يسمى بمحور المقاومة في بعض دول المشرق العربي، ومع ذلك ترك أعضاؤه يواجهون إسرائيل بإمكاناتهم التي قد تكون متواضعة إذا ما قورنت بامكانيات إسرائيل العسكرية والتقنية والاستخباراتية، فهو أي صانع القرار لا يزال يتشبث بعقيدته الأمنية التي تقوم علي تجنب الدخول في حروب مباشرة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية، ويفضل الحرب بالوكالة عليها. كونها إقل كلفة اقتصاديًا وبشريًا.
وتأكيدًا على ذلك ففي تصريحات متفجرة، لاسيما أنها أتت بالتزامن مع تكرار الحرس الثوري تهديداته بالرد على إسرائيل بشكل غير مسبوق، أكد عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، محسن رضائي، أن المرشد علي خامنئي لا يريد إشعال حرب مع تل أبيب في الظروف الحالية.كما أضاف القائد السابق للحرس الثوري في تصريحات، اليوم الأحد، من مدينة خُرّم آباد عاصمة محافظة لورستان غرب البلاد، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يسعى لإشعال حرب ضد إيران، ويريد استغلال رد الحكومة على مقتل إسماعيل هنية لشن هذه الحرب.وأردف رضائي الذي يشغل منصب سكرتير المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي بين رؤساء السلطات الثلاث في البلاد “أن الحكومة الإيرانية لن تمنح نتنياهو، هذه الذريعة، لكنها تترقب وستتصرف في الوقت المناسب بحكمة وقوة”.!
كذلك غابت من الأجهزة الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، كما التزمت الصين بالصمت واتخذت موقفًا محايدًا تجاه طرفي الصراع في الشرق الأوسط، وهذا هو مستوى دورها التقليدي من أخطر مناطق الصراع المسلح في العالم، وهو الابتعاد وتوخي الحذر وتجنب التورط والانغماس في صراع لا ترى مصلحة لها توازي ما سوف يجلبها عليها تورطها فيه.. وأما روسيا، فبغض النظر عن حربها ضد أوكرانيا، فهي لا تريد ان تخسر علاقاتها الودية مع اسرائيل، وهي علاقات راسخة وقديمة ومتجذرة وبينهما قاعدة واسعة من التفاهمات والمشاورات والاتصالات المستمرة وعلى أعلى المستويات القيادية في الدولتين وأغلبها غير معلنة.. وهو ما تحرص روسيا علي الحفاظ عليه وعدم التفريط فيه رغم كل هذه التوترات والازمات.
وهذه حقيقة يجب ألا تغيب عنا اذا ما كان ان نرى الواقع الراهن بكل أبعاده وظروفه علي حقيقته وبلا تهويل أو مبالغة في ما قد نتوقعه من هذا الطرف الدولي أو ذاك..فكل تلك الفواعل تبحث عن مصالحها أولا.. أما المثالية في العلاقات الدولية “المبادئ والقيم والاخلاقيات” ، فإنها تأتي لاحقة عليها إن كان ما يزال لها مكان في حساب كل فاعل لمصالحه.
والخلاصة هي ان إسرائيل اصبحت تنفرد باتخاذ قرارها بالحرب علي كل الجبهات التي تنوي مد حربها اليها، ولا يهمها ان تحيل هذه البيئة الخطيرة من العالم الي كرة مشتعلة من النار.. ومن هنا اقول ان خططها للمرحلتين الحالية والمقبلة تقبل جميع الاحتمالات كما يمكن ان تذهب في. كل الاتجاهات.
وهي الخطط التي تنبثق من رهانها علي ان الظروف والاوضاع العربية والاقليمية والدولية الراهنة مهيئة امامها الآن كما لم يحدث في اي مرحلة سابقة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي. وهذه الاوضاع العاجزة والمتدهورة هي اكثر ما يحفزها علي مواصلة تحركها علي طريق التصعيد.
فإسرائيل ساعية لخلق واقع ميداني جديد يقوم على تفكيك خصومها واحدا تلو الآخر، فبعد حماس جاء الدور على حزب الله، الذي كان ينظر إليه على أنه الجسم الأهم في “محور المقاومة”، وأن الدور سيكون على الحوثيين بعد إطلاق صاروخ باتجاه إسرائيل قبل أيام. وبعد تفكيك قدرات إيران وأذرعها على الجبهة السورية خلال السنوات الماضية، لن يبقى أمام إسرائيل سوى إيران نفسها، التي تعرضت للاختبار بعد مقتل هنية في يوليو وقبلها استهداف كوادر الحرس الثوري في قنصليتها في دمشق في أبريل الماضي.