تتابع جميع وسائل الإعلام المرئي والتواصل الاجتماعي ومراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية، طبيعة سير الأحداث وتطورها في الميدان السوري، بعد التقدم الكبير الذي احرزته الفصائل المسلحة بدخولها وسيطرتها على معظم المدن الرئيسية في سوريا وحيازتها على العديد من القواعد الجوية والمقرات والمواقع العسكرية والهيئات الأمنية الاستخبارية ومزيد من الأسلحة والمعدات الثقيلة والاليات المدرعات والطائرات التي اكسبتها بعدًا ميدانيًا كبيرًا وسيطرة فعلية وبأدوات ووسائل ناجحة.
ان الجميع كان يرى ان المعركة القادمة الفاصلة في المشهد السوري ستكون ( قلعة حمص) وهي المدينة ذات الأهمية العسكرية والأمنية كونها تعتبر الوسادة التي تتكئ عليها العاصمة السورية (دمشق) والحماية الرئيسية لاركان النظام وهيئاته وتشكيلاته بجميع صنوفها وانواعها، وميزتها أنها تحتوي على حواضن من الأحياء السكنية الواسعة والتي تعتبر من المصدات التي تساعد مقاتلي الجيش السوري على اتباع أساليب المناورة وحرب الشوارع والمدن، وفيها منشأة نفطية رئيسية ذات أبعاد اقتصادية تعمل على توسيع البنية التحتية للاقتصاد السوري، وهو ما يجعل التعرض عليها من الأمور التي استبعدتها القيادة العسكرية السورية، كما أن العديد من مقاتلي قوة الرضوان بدأت التوجه إليها والانضمام إلى وحدات الجيش والالتحاق بقوى النظام وتقديم الدعم والمساندة لهم، ووجود مطاري ( الشعيرات والضبعة) يجعل منهما مجالًا واسعًا التصدي لأي تقدم تقوم به الفصائل المسلحة نحو العمق الداخلي لمدينة حمص التي بدأت قوات النظام الأمنية الاستخبارية بالتحضير لها عبر التخندق ونصب المتاريس والسيطرات والكمائن التي ترى فيها وسائل تساهم في الحد من حركة وتقدم المقاتلين في هيئة تحرير الشام والمتحالفين معها.
ورغم جميع هذه الاعتبارات والخصائص الميدانية الا أن مقاتلي الفصائل المسلحة استخدمت خططًا عسكرية أكثر حضورًا في الميدان وشكلت نقلة نوعية في الاستخدام الفعلي لسياقات التعبئة والتخطيط العسكري والدراسة الفعلية لمفهوم العقيدة العسكرية في التعامل مع أصول المعركة واختيار أهدافها وتحقيق غايتها، فكان التوجه نحو محاصرة مدينة دمشق من جهتها الشرقية والقت بكل إمكانياتها بعزل المدينة عن باقي محيطها، وتمكنت من تحريك الجبهة الجنوبية التي ساندتها شعبيًا عبر تشكيل ( غرفة عمليات الجنوب) وتمت السيطرة على مواقعها الرئيسية في مدن ( درعا والقنيطرة والسويداء)، ووجهت مقاتليها باحكام السيطرة عليها والتمركز في الجبهة الشمالية والشرقية والجنوبية، مع الاعداد السليم لخطط ميدانية تساهم في تطويق العاصمة دمشق من جهتها الغربية.
ملامح وثوابت الخطة العسكرية فاجأت جميع القيادات العسكرية والأمنية التابعة للنظام والتي كانت تتوقع أن تكون معركتها الحاسمة في مدينة حمص، إلا أن الفهم والادراك الحقيقي التي اتبعته القيادة الميدانية للفصائل المسلحة كانت ذات أبعاد إيجابية ساهمت في خلق حالة من الارتباك والتردد لدى هذه القيادات التي وقفت عاجزة عن معالجة عملية الانشقاق الحاصل في منظوماتها القتالية وهروب غالبية أفراد الجيش السوري وتركتهم مواقعهم بل لمعداتهم الثقيلة ومنها الطائرات في القواعد الجوية والدبابات والمدرعات في المعسكرات والافواج القتالية.
وتتابع هيئة تحرير الشام الموقف العربي والإقليمي الذي تحيطه اجتماعات العاصمة القطرية ( الدوحة) بحضور الدول الفاعلة في المشهد السوري وهي ( روسيا وإيران وتركيا) وهي المعنية باجتماعات أستانا في السنوات الماضيه والتي كانت من مخرجاتها مناطق خفض التصعيد والتي مثلتها محافظة أدلب واجزاء معينة من محافظات ( اللاذقية وحلب وحماة وشمال محافظة حمص والغوطة الشرقية واجزاء من مدن درعا والقنيطرة)، واللافت في جلسات الاجتماع الذي حضره وزراء خارجية الدول المعنية،ما قاله رئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بأن ( الرئيس السوري بشار الأسد لم يغتنم الفرصة التي كانت موجودة لتحقيق المصالحة مع شعبه) وعلى هامش منتدى الدوحة عقد اجتماع موسع لمناقشة تطور الأحداث في سوريا وانتماسعا على الأمن القومي العربي لحضور وزراء خارجية ( مصر والاردن والسعودية والعراق) وقطر راعية الاجتماع، والذي اتخذ قرارًا سياسيًا بدراسة الأوضاع الميدانية السورية وضرورة تنفيذ القرار الأممي (2254) واتفقت الأطراف على ضرورة البدأ بعملية انتقال سياسي بتشكيل هيئة سياسية تضم قيادات عسكرية مستقلة من الجيش السوري ومن قيادات في المعارضة السورية يتم الاتفاق عليها، وقد ساعد الموقف الأمريكي المعلن من قبل الرئيس القادم دونالد ترامب على تسهيل نجاح الاتفاق مابين جميع الأطراف وخاصة الطرف التركي والروسي، عندما أعلن (بأن الولايات المتحدة الأمريكية لا علاقة لها بما يجري في سوريا) ونرى ان هذا الموقف الامريكي يأتي في سياق الرؤية السياسية الاستراتيجية التي اعلم عنها ترامب في حملاته الانتخابات بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، ومنع أي أزمة وصراع سياسي وعسكري في منطقة الشرق الأوسط، وتحاول فصائل المعارضة السورية المسلحة الإسراع بالسيطرة الفعلية على مجريات الأوضاع الميدانية في العاصمة دمشق، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى منع أي حل سياسي تفرضه قوى إقليمية وعربية.
أن المصالح والمنافع التي تشكل عصب العلاقات الدولية قد عبرت عنها إيران التي دائما ما تستغل الفرص السياسية لتسخيرها لتحقيق مكاسبها في الميدان، وهي العقيدة السياسية التي تلتزم بها بتوجيه من المرشد الأعلى علي خامنئي باعتماد مبدأ ت قبضة النظام والحفاظ عليه)، وهذا ما دفعها إلى سحب مليشياتها عناصرها المسلحة وكوادرها من فيلق القدس والحرس الثوري من دمشق وباقي المدن السورية، واستبدلت في توصيفها مقاتلي المعارضة السورية من ( جماعات إرهابية) إلى ( جماعات مسلحة) وهذا يشكل تحولًا سياسيًا ومنعطفًا ميدانيًا يؤكد الاعتراف الإيراني بهم.
وجاء الموقف التركي متزامنًا مع معطيات الميدان السوري، بحديث الرئيس رجب طيب أردوغان بأن (على الجميع أن يعي الآن أن هناك واقعًا جديدًا في سوريا) وأن هذا البلد لجميع السوريين بكل طوائفهم ولا فائدة بتأجيج الأحداث أكثر، وأتهم النظام السوري بأنه السبب وراء ما حدث خلال الأيام الماضية عندما استمر ( بالهجمات المتزايدة ضد المدنيين في إدلب والتي كانت الشرارة التي اججت الأحداث)،
وهذا موقف رسمي معلن يؤكد العمق الاستراتيجي للمشروع التركي القادم في المنطقة ويؤسس لاعتبارات سياسية واجتماعية ويضع ركائز مهمة لعملية سياسية ممنهجة في المستقبل السياسي السوري، ولذلك فإنه يشير إلى أن ( تركيا تريد أن تجد جارتها سوريا السلام والهدوء اللذين تتوق إليهما منذ 13 عامًا).
هذه الثوابت التركية تعكس الطموح السياسي للقيادة التركية بابعادها الدولية والإقليمية والتي تتجاوز إسقاط النظام السوري بحد ذاته، حيث يبدو أنها تسعى إلى إيجاد مفاتيح لتغيير موازين القوى في المنطقة، ومنها الهدف الحقيقي في إضعاف إيران ومواجهة مشروعها السياسي في التمدد والنفوذ بمنطقة الشرق الأوسط ،وهي رؤية تركية لتحجيم المنافسين الإقليميين وإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالحها،والاعتماد على الإدارة الأمريكية القادمة،مع تأمين حدود تركيا بشكل أوسع وحماية الأمن القومي التركي من الهجمات والأفعال التي ينتهجها حزب العمال والسعي لإعادة (4) مليون سوري يتواجدون على الأراضي التركية والتخفيف من الأزمات السياسية والاجتماعية التي تعاني منها تركيا بسبب التباين في مواقف المعارضة التركية من تواجد المهاجرين السوريين.
أبعاد كثيرة ومصالح ومنافع قائمة وأهداف وغاياتات لجهات إقليمية ودولية، جميعها تتحد وتتباين في ما ستؤول إليه نتائج المعارك المستمرة في الميدان السوري
وحدة الدراسات الاقليمية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية