تعيش منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي أجواءً متباينة وصراعات ميدانية من الأحداث المتوالية أفرزتها حالة الصراع العسكري والاشتباكات التي خاضتها القوات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية مدة (15) شهرًا، وهي حصيلة المواجهات العسكرية الأكثر خطورة وتضحية في الأرواح والأموال والمعدات بقطاع غزة وامتدادًا للضفة الغربية، ثم ما تلاها من عمليات مباشرة اتسمت بالطابع اللوجستي الأمني والعسكري في استهداف القيادات السياسية والعسكرية والأمنية لحزب الله اللبناني، ثم القضاء على معظم القوة الميدانية التي كان يمتلكها من الصواريخ الموجهة والطائرات المسيّرة والمدافع والهاونات ذات البعد الأقصى ومؤسساته الأمنية والاستخبارية، ثم الانكسار الكبير والهزيمة الساحقة بسقوط النظام الأسدي في دمشق وفرار رئيسه إلى روسيا.
أحداث جسيمة ومتغيرات سياسية كبيرة، كان لها وقعها المؤثر على بعض عواصم الأقطار العربية، حددت إفرازاتها مديات المستقبل السياسي لهذه الدول وأبناء شعبها، فكانت العودة الصحيحة للحياة السياسية والنيابية للقطر اللبناني بعد سنوات من الفراغ الرئاسي بسبب الاضطهاد والتعنت الذي كان يتبعه حزب الله في جلسات البرلمان اللبناني وإفشال جميع المحاولات في اختيار رئيس للدولة، ثم إنهاء حالة الظلم والتعسف والقمع والقتل والاعتقالات التي كانت تمارسها الأجهزة الأمنية والاستخبارية التابعة للنظام السوري السابق، وإيقاف جميع الانتهاكات الوحشية التي كانت تقوم بها المليشيات المسلحة التابعة للحرس الثوري الإيراني ضد أبناء الشعب السوري.
وكان الشرق الأوسط، وتحديدًا المنطقة العربية، أمام عدة مشاريع سياسية واكبت الأحداث وسارعت لإثبات وجودها وديمومة مصالحها وتحقيق مكاسبها الميدانية، ومنها المشروع الإسرائيلي الاستيطاني الذي حاول وعبر الأشهر الماضية أن يمتد عبر الأراضي الفلسطينية الواقعة ضمن مهام السلطة الفلسطينية، وحسب الاتفاق السياسي الذي وقع بين الطرفين في العاصمة النرويجية (أوسلو) عام 1993، ولكن الحكومة اليمينية التي يرأسها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم تتمكن من المضي في أهدافها وغاياتها وتحقيق مآربها للتكلفة الكبيرة التي بدأت تعانيها على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، وحالة التذمر والخوف التي بدأت تعيشها عوائل المستوطنين ومغادرة الآلاف منهم إسرائيل، وتعثر الاقتصاد والاستثمار المالي بجميع اتجاهاته، مما أثقل الميزانية الإسرائيلية وأصبحت تعاني ثقلًا وكاهلًا كبيرًا في معالجة الأزمات المجتمعية، وبات على الإدارة الأمريكية تحمل تبعات عدم الانتظام السياسي لحكومة نتنياهو وحالة التشدد التي تبديها في عدم التزامها بإقامة الدولة الفلسطينية، بل إنها سعت عبر مشروعها السياسي لضم الضفة الغربية وغزة، ولم تتحقق جميع الأهداف التي سعى إليها بنيامين نتنياهو، وانتهى الحال إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في الأراضي الفلسطينية مع حركة حماس.
ويأتي المشروع الإيراني الذي تأسس وأنشئ على أسس وركائز تستهدف حالة الأمن والاستقرار الذي تعيشه المنطقة العربية عبر الإعداد والتنفيذ بتكوين خلايا تنظيمية ومجموعات قتالية وفصائل مسلحة، وبتدريبات ومعسكرات خاصة تابعة لفيلق القدس والحرس الثوري الإيراني، تسعى من خلالها للتمدد والنفوذ والهيمنة ضمن إطار المشروع السياسي الإقليمي، الذي كان أحد بنود الدستور الإيراني في مادته الخامسة والذي أُقر عام 1979.
خطورة المشروع الإيراني أنه يستهدف القرار السياسي المستقل للدول التي يعمل على التواجد والتمدد فيها، بل يعمل على تكوين مجاميع قتالية تؤطرها أحزاب سياسية، تدفع بها لولوج العملية السياسية والنيابية، وتمكنها من التلاعب والتأثير على القرارات ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول التي تتلقى فيها هذه المجاميع الدعم المباشر من النظام الإيراني.
وبعد الانهيار الذي عاشه الجنوب اللبناني، والزلزال السياسي الكبير الذي أصاب حزب الله الحليف الاستراتيجي ودرة المشروع الإيراني، وانكفاء ما أطلق عليه بـ(ساحات المقاومة) والقتال من أجل دعم وإسناد المقاومة الفلسطينية، التي كانت تمثل إحدى أهداف التوسع الإيراني على حساب تضحيات ودماء أبناء الشعب الفلسطيني، الذي تعرض لحرب إبادة على المستوى البشري والتضحيات المادية العمرانية، وتلاها إسقاط النظام السوري، المربع الذهبي للطموحات الإيرانية في الهيمنة على عواصم الأقطار العربية، والجسر السياسي الذي تتحرك عليه مسارات وتوجيهات الحرس الثوري الإيراني بدعم وإسناد المليشيات التي تقاتل على الأراضي السورية وفي العمق اللبناني.
إن المشروع الإيراني السياسي الإقليمي لا يستهدف فقط الأمن القومي العربي، بل يتوافق مع المشروع الإسرائيلي في الهيمنة والتمدد على حساب أبناء الشعب العربي ومستقبل أجيالهم، ويسعى لتنفيذ مآربه وأهدافه السياسية التي تعتبر مرحلة من مراحل الوصول إلى تعميق وتثبيت ما ترغب فيه إيران من (ولاية الفقيه).
وأصبح المشروع يعاني من الانكسار السياسي والهزيمة الميدانية والتشتت الفكري والانهيار النفسي، ورفض القبول العربي والشعبي له بعدما تبينت أهدافه وسلوكه ونهجه، وانفضحت مخططاته وبرامجه في التوسع والتمدد والنفوذ.
ورغم وجود المشروع التركي، الذي له سماته الواضحة في الميدان السوري قبل الأحداث التي شهدت سقوط النظام الأسدي في الثامن من كانون الأول 2024، بتواجد قواته العسكرية في الشمال، والشمال الشرقي من الأراضي السورية، ودعمه للفصائل المعارضة، ومنها بالتحديد مقاتلو الجيش الحر، وسيطرته على عدد من القصبات والأماكن السورية، ومواجهته المستمرة لقوات سوريا الديمقراطية، إلا أن الأمر أخذ منحنى آخر بعد الدخول الواسع والسيطرة التامة لمقاتلي هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها على العاصمة (دمشق) والإعلان عن تشكيل الإدارة الانتقالية، والتي انتهت بإعلان (يوم النصر) في 29 كانون الثاني 2025، وتكليف السيد أحمد الشرع برئاسة المرحلة الانتقالية، والإعلان عن عدة قرارات داخلية تتعلق بتشكيل جيش وطني ومؤسسة أمنية داعمة، وحل الفصائل المسلحة والجيش التابع للنظام السوري والمنظمات الحزبية التابعة لحزب السلطة الحاكم سابقًا، فكان الدعم والمساندة السياسية والإعلامية التركية امتدادًا للعلاقة التي ربطت القيادة التركية بفصائل المعارضة السورية، والتي كان من ثمارها ما حدث على الساحة السورية من استعادة الشعب السوري لحريته وكرامته وأمله في حياة حرة كريمة ومستقبل زاهر لأجياله القادمة.
واتسع المشروع التركي لتكون لديه آفاقه المستقبلية ورؤيته الميدانية في المشهد الليبي، ودعمه لحكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، وإرسال كتائب مسلحة من الجيش التركي بمعداتها وضباطها وأفرادها لتكون داعمة له في مواجهة قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر.
وأخذ المشروع التركي أبعاده بإعادة العلاقات العربية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، والانفتاح نحو الجزائر والسودان، والتدخل المباشر في المصالحة السياسية بين الصومال وإثيوبيا.
ومهما تباعدت الأهداف الميدانية للمشروع التركي، فإنه يبقى ضمن إطار الطموح السياسي والاقتصادي والأمني الذي تمثله القيادة التركية في إيجاد مساحات واسعة لها في أي متغيرات قادمة في الشرق الأوسط والوطن العربي.
وبتساؤل حقيقي بأبعاد فكرية ومستقبلية، أين سيكون المشروع السياسي العربي؟ وكيف يمكن له أن يواجه المشاريع التي تستهدف وجوده واستقلاله وقراره المستقل؟ وما الوسائل الفاعلة للمحافظة على ثروات شعبه وحماية مكتسباته الاقتصادية؟
يمكن تحديد ثوابت المشروع العربي في القرار الذي اتخذته الجامعة العربية والقيادات السياسية التي تمثل (22) دولة في القمة العربية التي عقدت في العاصمة اللبنانية (بيروت) في 27 آذار 2002.
وكانت إحدى القمم الأكثر أهمية في تاريخ القمم العربية، إذ تبنت مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز (كان وليًا للعهد السعودي يومذاك) بشأن تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية شريطة الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 1967، وإعلان قيام الدولة الفلسطينية استنادًا إلى مبدأ (حل الدولتين) والتأكيد على أن السلام خيار عربي استراتيجي، ومشروع الإصلاح العربي قائم على تأكيد الهوية الوطنية التي تقود جميع المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع أفراد الشعب، ودعم مسيرة الإعمار والبناء والإصلاح، واعتماد التنمية الاجتماعية المستدامة كأساس رئيسي في تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجيا وتحسين البنى التحتية، والاستفادة من الموارد المالية للثروات النفطية والمعادن الأخرى في بناء الدولة العربية وتعزيز أمنها الوطني والقومي، والابتعاد عن أي حروب وصراعات داخلية وخارجية في المنطقة بما يحقق الأمن والسلام الذي تهدف إليه جميع دول العالم.
وحدة الدراسات الإقليمية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة