الشرع في روسيا علاقة تكتيكية أم توجه استراتيجي

الشرع في روسيا علاقة تكتيكية أم توجه استراتيجي

اياد العناز 

بتاريخ 15 تشرين الأول 2025 وصل العاصمة الروسية ( موسكو) الرئيس السوري أحمد الشرع في أول زيارة له بعد سقوط نظام الأسد ، زيارة اعتبرت تاريخية في توقيتها وتفاصيلها ورمزية المكان الذي تواجد فيه الشرع في لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ( الكرملين) وصعوده السلم الأحمر الذي اوصله إلى قاعة القديس جورج التي كان بانتظاره فيها الرئيس بوتين، ومنحت مؤشراً إيجابياً على رغبة البلدين في إعادة ترميم العلاقات الثنائية بينهما بما يحقق المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية المشتركة.
اتسمت الزيارة بملامحها التي رسمت الآفاق المستقبلية في معالجة عديد من الملفات الشائكة المتعلقة بمستقبل بقاء القواعد العسكرية الروسية والاستثمارات المالية لمشاريع الطاقة والإنتاج والبناء الروسي على الأراضي السورية وتحقيق العدالة الانتقالية السورية عبر تسليم القيادات العليا للنظام السوري وفي مقدمتهم بشار الأسد وأعوانه المتواجدين في روسيا، ومناقشة تسليح الجيش السوري في مجال الدفاع الجوي وتجديد احتفاظ موسكو بقواعدها في ( حميميم وطرطوس والقامشلي) عبر اتفاقيات جديدة.
اعتمدت القيادة السورية منطلقات سياسية وتاريخية واضحة في التعامل الدبلوماسي والحوار السياسي مع القيادة الروسية، متخذة من الحضور الروسي والعلاقات الثنائية التي تمتد إلى عام 1945 طريقًا للوصول إلى العمق الاستراتيجي الذي تفرضه هذه العلاقة وطبيعة البنى والمرتكزات الروسية التي أسستها في جميع القطاعات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية السورية، والتي لايمكن مغادرتها أو تركها رغم جميع الجراح التي استنزفتها دماء أبناء الشعب السوري منذ انطلاق ثورته في 15 آذار 2011 وبعد الحضور الميداني العسكري الروسي على الأرض السوري في أيلول 2015.
مثلت الزيارة دلالة سياسية في تأكيد وبلورة الدور السوري شرعيًا ودوليًا عبر الحوارات المتبادلة بين قيادات البلدين والتوافق والتعاون الثنائي في جميع المجالات، ومثلت خطوة إيجابية تحسب للرئيس احمد الشرع في تعامله مع القضايا الدولية التي تحمي المصالح العليا للشعب السوري بمزية من الحكمة والتعقل وتقديم مصلحة الوطن على كل ما مر سابقاً من أوضاع عسكرية وصراعات ميدانية، ولكنها أعطت انطباعًا مهمًا استمع إليه الرئيس بوتين بأن المرحلة الجديدة في العلاقات السورية الروسية ستكون قائمة على تحقيق المصالح والمنافع دون التبعية السياسية وعلى التفاهم والتوافق بعيدًا عن الاملاءات، وهي الأسس التي يجب مراعاتها في جميع ملفات التواجد العسكري الروسي وإعادة الإعمار وتأهيل وتشغيل أبار النفط السورية وتحقيق التوازن الإقليمي في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، عبر علاقات ثنائية متوازنة قائمة على قواسم مشتركة من الاحترام المتبادل والثقة في التعامل، واعتبار الزيارة صفحة جديدة لتحسين العلاقة بين البلدين قائمة على التوازن وحماية مصالح البلدين بعيدًا عن الهيمنة العسكرية والتدخل في الشؤون الداخلية السورية.
وجود العديد من الدلالات والمضامين الكبيرة الواسعة التي احتوتها زيارة الرئيس الشرع لروسيا، وأهمها الجانب السياسي الذي اعتمدته القيادة السورية بضرورة تحقيق الاحتواء والتوازن في العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم التغيير السياسي السوري وبين روسيا التي تسعى لفتح صفحة إيجابية في المشهد السوري، وقد تكون هناك زيارة قادمة للصين تعطي دلالتها في فهم السياسة العقلانية التي تنتهجها القيادة السورية، ثم إعطاء صورة واقعية في قطع التواصل مع الماضي السياسي والعسكري في العلاقة مع روسيا الذي شهد صور من البراميل المتفجرة وعمليات القتل والتهجير وتحييده إلا في مسألة تحقيق العدالة الانتقالية والمطالبة برئيس النظام السابق بشار الأسد وأعوانه، وإقامة علاقات ترابطية جدية لا تهمين فيها روسيا على القرار السوري بل تتعامل معها باستقلالية سياسية واضحة، والإشارة السورية إلى عدم تسليح بقايا النظام السوري وفلوله بما يؤثر على حالة الأمن والسلم الأهلي الذي تسعى إليه الحكومة السورية عبر مؤسساتها القانونية والقضائية.
وأهم علامة في المضمون السياسي للزيارة هو ما تم طرحه من إمكانية العودة بنشر كتائب من الشرطة الروسية في الجنوب السوري كما كانت تفعل قبل سقوط نظام بشار الأسد لمنع أي خروقات إسرائيلية وتحيدها في التعامل مع التعقيدات الداخلية التي تشهدها مدينة السويداء، ويبقى للجانب الروسي مهمته في التوافق مع سوريا عبر تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي والوصول لغايته في عدم التخلي عن القواعد العسكرية الروسية في ( طرطوس وحميميم القامشلي) لأنها تمثل له ركيزة البناء الروسي في منطقة الشرق الأوسط، مع الاحتفاظ بعقود النفط والغاز والفوسفات التي تم توقيعها في الماضي، والتي طلب الجانب السوري إعادة صياغة التجديد لها وفق آليات تحقق إرادة التطبيق الفعلي بما لا يتعارض ومبادئ السيادة السورية.
واخذ الجانب العسكري أهميته في ملامح الزيارة عندما حضرت القيمة التاريخية للعلاقة الثنائية السورية الروسية والتي امتدت لأكثر من ثمانين عامًا حضر فيها الخبراء الروس إلى كافة المنشأت والمواقع والمؤسسات العسكرية وساهموا في إعداد الجيش السوري وتسليحه بكافة انواع المعدات الثقيلة والطائرات المقاتلة والدبابات والمدرعات ومنظومات الدفاع الجوي ومنصات الإطلاق، والتي رسخت معالم من العلاقة المتينة والاعداد والتدريب المشترك وتبادل المعلومات وإقامة الدورات التطويرية، وهو الأمر الذي كان حاضرًا في عقلية وفكر القيادة السورية عندما حضرت إلى لقاء الرئيس الروسي والتي رأت أن ما كان قديمًا من علاقة وطيدة يجب أن لا يهدم، لأن البنية العسكرية للقوات المسلحة السورية وعقيدتها كانت روسية عبر ملايين من قطع الغيار التي لا زالت موجودة في المخازن التابعة لصنوف الجيش السوري، رغم أن الروس قد رفضوا ثلاث صفقات لتزويد الجيش السوري أبان حكم بشار الأسد، ومع جميع التسهيلات التي قدمتها دمشق في انشاء قاعدتين عسكرتين الروس في ( طرطوس وحميميم) والتي كانت من شروط التدخل العسكري الروسي في أيلول 2015.
أن المؤسسة العسكرية السورية تدرك أنها بحاجة ماسة لتطوير صنوفها القتالية، ولا إمكانية للجيش التركي في توفير جميع المعدات العسكرية التي تتطلبها طبيعة الواجبات والمهام التي تخص الفاعليات العسكرية، فأنقرة لا تمتلك الطائرات المقاتلة ولا تُصنع منظومات للدفاع الجوي، وأي جيش في العالم لا يمكن له أن يغير من الجهة التي تسلحه في فترة محددة، وروسيا ترتبط تاريخياً بعلاقات وطيدة مع المنظومة العسكرية السورية التي تحتاج اليوم للسلاح الروسي للدفاع على أراضيها من الطامعين بها والساعين لاحتلال أجزاء من أراضيها والى تواجد عسكري مشترك مع روسيا في جنوب البلاد لقطع الطريق أمام أي محاولة إسرائيلية للتوغل داخل الأراضي السورية، ومن هنا جاءت فكرة طرح إمكانية إعادة تواجد عناصر من الشرطة الروسية في الجنوب السوري، وتعامل الرئيس الشرع في هذه النقطة بكل حرص ودقة بإعلانه التزام سوريا بكل الاتفاقيات الموقعة مع روسيا ومنها ما كان مع الاتحاد السوفيتي سابقاً، كما حضرت قوات سوريا الديمقراطية في المباحثات بحكم العلاقات الثنائية المتينة بين روسيا و(قسد) والإدارة الكردية في منطقة الحسكة ووجود قاعدة عسكرية روسية في مطار القامشلي، وناقشت إمكانية وجود دور روسي في تخفيف حدة الصراع والخلافات الداخلية بين القيادة الروسية وقوات سوريا الديمقراطية.
تبقى الأهداف الروسية قائمة في الاحتفاظ بقواعدها العسكرية في الميدان السوري وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط باعتبارها تمثل البناء السياسي والنفوذ العسكري في الشرق الأوسط، وتُوجد لها نقطة ارتكاز مهمة في التوازن الاستراتيجي بعد أن تم تغيبها في مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد للتوقيع على اتفاق وقف القتال في قطاع غزة، وإبعاد الروس عنه دليل واضح واشارة دقيقة أن منطقة الشرق الأوسط هي ضمن أدوات النفوذ الأمريكي حصرًا، واستعادة روسيا دورها في التفاعلات المستمرة على المشهد السياسي السوري من محاولات تجري في محافظة السويداء بعدم الاعتراف بشرعية النظام والتعاون مع مؤسساته والتخرصات والاعتداءات الإسرائيلية في المحور الجنوبي من البلاد مع عدم انتظام العلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية، كلها تمثل وسيلة للتدخل الروسي في إمكانية التوصل لحلول لهذه المشاكل والصراعات بحكم العلاقة التي إقامتها القوات العسكرية السورية أثناء تواجدها على الأرض السورية لعقد من الزمن، وهو الموقف الذي عبر عنه الرئيس فلاديمير بوتين في حديثة أثناء الاستقبال الرسمي للرئيس الشرع بقوله ( أن علاقة بلاده مع الشعب السوري عميقة) ، في حين أكد الرئيس السوري أنه يحاول تعريف هذه العلاقة بشكل جديد يضمن سلامة سوريا ووحدتها واستقلاليتها.
وأما الغايات السورية فإنها تسعى إلى حالة من التوازن الفعلي في العلاقات الدولية ورسمها بشكل استراتيجي يحفظ المصالح العليا للشعب السوري باعادة تسليح الجيش السوري بشكل فعال وتزويد جميع صنفوفه القتالية بما تحتاجه من معدات وأسلحة ومنظومات للدفاع الجوي متقدمة وحديثة والحصول على الغاز والنفط الروسي بخصومات كبيرة وتوريد القمح الروسي بشكل أرخص، مع موقف سياسي ثابت وقوي لروسيا في مجلس الأمن الدولي يتعلق برفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا لتحسين وضعها الاقتصادي وإعادة بناء الدولة بشكل متطور وحديث وانعاش الحركة الاقتصادية والاستثمارات المالية فيها عبر إقامة المشاريع الاستراتيجية وتحقيق حركة الإصلاح والبناء والإعمار، وتحقيق التوازن الاستراتيجي المشترك بين البلدين قائم على المصالح والمنافع وليس على الهيمنة العسكرية والتعامل بروح من التعاون الثنائي.

وحدة الدراسات الاقليمية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية