تأتي الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر القادم في وقت تتنامى فيه حالة الاستقطاب المجتمعي، وصعود قضايا محورية مثل تآكل الطبقة الوسطي في المجتمع الأمريكي، وما يستتبع ذلك من قضايا متشابكة تؤثر في مستقبل النمو الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي في الولايات المتحدة، مثل التفاوت الشديد في الدخول، وتراجع دور الدولة في حماية الأفراد، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات.
وحول أهمية الطبقة الوسطي في بناء الهيكل الاقتصادي الأمريكي، يأتي هذا الكتاب الذي يثير تساؤلا رئيسيا مفاده: لماذا يشكل ضعف الطبقة الوسطي مشكلة متجذرة في الاقتصاد الأمريكي؟. كما يركز الكتاب علي بعض القضايا المتعلقة بالركود الاقتصادي للطبقة الوسطي، مثل تراجع الثقة الاجتماعية، وتدهور رأس المال البشرى.
وتنبع أهمية هذا الكتاب من أن مؤلفه ديفيد مادلند خبير في القضايا الاقتصادية، وله العديد من المؤلفات في قضايا عدم المساواة الاقتصادية، وسياسة التقاعد، والنقابات العمالية، ومعايير العمل، وهو مدير مشروع القوي العاملة الأمريكية بمركز التقدم الأمريكي، الذي يعد المصدر الرئيسي لأفكار المرشحة الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية القادمة، هيلاري كلينتون.
الطبقة الوسطي والاقتصاد الأمريكي:
يتناول المؤلف بالشرح آثار تدهور الدخول والثروة التي تمتلكها الطبقة الوسطي علي الاقتصاد الكلي، حيث يعد الاستهلاك هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي علي المدي القصير، أي أن انخفاض استهلاك الطبقة الوسطي من شأنه إبطاء نمو الاقتصاد الكلي. في هذا الشأن، يقدم مادلند تحليلا تاريخيا للأسباب المعقدة والروابط المتشابكة لقضية عدم المساواة التي تؤثر في المستقبل الأمريكي اقتصاديا ومجتمعيا، وأثر هذه القضايا علي المسار الديمقراطي في الولايات المتحدة، مؤكدا أن الاقتصاد هو نظام مترابط يتألف من المواطنين، والقوانين، والثقافة. ويوضح أن الاقتصاد الذي يفتقر إلي الطبقة الوسطي هو اقتصاد أجوف.
ويري المؤلف أن الأداء الحكومي الضعيف للإدارات الأمريكية، وما تبنته من سياسات للانتعاش الاقتصادي، ذات الأثر غير المتكافئ، تسبب في اندثار الطبقة الوسطي، الأمر الذي نتج عنه ضعف وعدم استقرار الطلب، فضلا عن انخفاض مستوي تنمية رأس المال البشري، مما ألحق أضرارا جمة بالاقتصاد الأمريكي.
وفي هذا السياق، تضمن الكتاب العديد من الإحصاءات لعرض ما يشهده الاقتصاد الأمريكي من تحديات خلال السنوات الثلاثين الماضية، والتي تمثلت في الركود الاقتصادي، وأعباء الديون العالية، وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والتعليم. ويشير إلي أن آثار تلك التحديات تحملتها الطبقة المتوسطة بصفة أساسية، حيث انخفض متوسط دخل الأسرة والأجور مقابل العمل بالساعة انخفاضا كبيرا، في حين تم تعويض الشركات الكبيرة في أوقات الركود الاقتصادي، حيث ارتفع هذا التعويض من أقل من 30 ضعفا من متوسط دخل العامل في عام 1978 إلي أكثر من 350 ضعفا من متوسط دخل العامل في عام .2007 وبهذا، يستخلص المؤلف أن 1٪ فقط من ذوي الدخول يستحوذون علي 95٪ من عوائد الإنتاج.
وفي مؤلفه، يسرد مادلند نتائج نزيف الاقتصاد الأمريكي الذي تمتد جذوره منذ عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، حيث تبني سياسات تشجيع الاستثمار، من خلال تخفيض معدلات الضرائب بهدف دفع وزيادة الإنتاج في البلاد، انطلاقا من اقتناع بأنها ستؤدي إلي النمو، وتحقيق المصالح للجميع. لكن هذه السياسات لم يجن ثمارها سوي الشركات الكبيرة، وجماعات الضغط، ولجان العمل السياسي، وكان ذلك علي حساب الطبقة الوسطي والفقراء، مما عزز تعاظم التفاوت الاجتماعي منذ عهد ريجان، وأدي إلي اندثار هذه الطبقة، أو ما سماه بالطبقة المفقودة أو الضائعة.
أهمية وجود طبقة وسطي:
سلط المؤلف الضوء علي فوائد وجود طبقة وسطي قوية في بناء المجتمع الأمريكي، حيث يري أنها ضرورة لتعزيز النمو الاقتصادي علي المدي الطويل بدلا من الاعتماد علي نخبة يتركز وجودها في شريحة طبقية عليا “طبقة الأثرياء” تهدف إلي مكاسب اقتصادية، وسياسات اقتصادية قصيرة المدي لا يتعدي أثرها حدود هذه الشريحة. ويتحدث مادلند عن وجود طبقة وسطي قوية يمكن أن تكون موازية لنفوذ طبقة الأثرياء، حيث تميل الطبقة الوسطي لتحقيق المصالح العامة، من خلال معالجة مشاكل تدهور البنية التحتية، ونظام تعليمي وصفه بالضعيف. كما أن توافر طبقة وسطي متنامية يؤدي إلي استقرار الطلب علي السلع، والخدمات، والاستثمار، وخلق وظائف جيدة. فطبقة وسطي قوية تخلق المزيد من رأس المال البشري، مما يسهم في زيادة مستوي الثقة المجتمعية علي مدي واسع الانتشار. وبهذا، يضع المؤلف الطبقة الوسطي في موضع المحرك لعملية النمو الاقتصادي.
تناول مادلند مفهوم تراجع الثقة الاجتماعية، حيث يقصد به زيادة عدم المساواة في الدخول، والذي يؤدي بدوره إلي عزلة جغرافية لتلك الفئات مختلفة الأجور، فيعيشون في أحياء مختلفة، ويمتلكون سيارات مختلفة، ويمارسون أنشطتهم التجارية في أماكن مختلفة، ويلحقون أولادهم بمدارس مختلفة. ويعتقد المؤلف أن تراجع الثقة -نتيجة انخفاض التفاعل بين الطبقات الاقتصادية يوما بعد يوم- يعزز العزلة العرقية والإثنية، كذلك يؤدي إلي مواقف اقتصادية واجتماعية لها آثارها وتوابعها السلبية.
متطلبات إصلاح الاقتصاد الأمريكي:
يري مادلند أن إصلاح الاقتصاد الأمريكي بحاجة لحوار وطني للاتفاق علي سياسات اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية تعمل علي تحقيق مصالح جميع المواطنين. ويقترح أن مثل تلك السياسات تحتاج إلي نموذج رئاسي جديد قادر علي استيعاب الاختلالات الهيكلية في البناء الطبقي للمجتمع الأمريكي، ويسعي لإحداث تغيير جذري، وينأي بنفسه عن أي معاملة تفضيلية للشركات الكبرى والأثرياء علي حساب الطبقة الوسطي.
كذلك، يدعو المؤلف إلي إعادة المكانة للطبقة الوسطي وتقويتها. فقوة الطبقة الوسطي تعني قوة الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال تشجيعها علي تنظيم نفسها عن طريق الاتحادات، والروابط، والنقابات التي تم تحجيمها تاريخيا، وذلك لإحداث الحراك الاجتماعي المطلوب لمعالجة الاختلالات الستة الكبيرة: توزيع الثروة، والمساواة بين طبقات المجتمع، وتأمين وصول الخدمات العامة لكافة المواطنين الأمريكيين دون تمييز، وصيانة وإحلال وتجديد المرافق العامة والبنية التحتية في كل الولايات الأمريكية، وتوفير الحماية الاجتماعية المطلوبة من خلال تطبيق صارم للأنظمة التأمينية المتنوعة علي كل المواطنين، واندماج الإثنيات المختلفة في المجتمع الأمريكي.
وختاما، يفترض ديفيد مادلند أنه من خلال سياسات متعمدة وعملية، وطبقة وسطي قوية البناء، يمكن أن تستعيد الولايات المتحدة الأمريكية مكانتها بحسبانها القوة الدافعة، والمحرك للتنمية علي المستوي العالمي، كما كانت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ديفيد مادلند
عرض:رانيا مرزوق حسن