ألقى الدبلوماسي الغربي في مطار شارل ديغول صحيفة «نيويورك تايمز» جانبًا، بعدما فرغ من قراءة مقال كتبه محمد جواد ظريف نهاية الأسبوع الماضي، وقال لي: «هذا رجل بارع في توزيع الابتسامات وفي قلب الحقائق أيضًا، إنه واهم إذا كان يظن أن من يقرأ مقاله يمكن أن يصدّقه».
مقال ظريف جاء على خلفية الزوبعة التي أثارتها طهران ضد الرياض، التي نفذت أحكامًا قانونية ضد مجموعة من مواطنيها الذين أدانتهم بالإرهاب والعمل على إثارة الفتنة المذهبية في البلاد، لكنه تزامن عمليًا مع إعلان طهران اتخاذ سلسلة من الإجراءات التي تحاول امتصاص النقمة العارمة التي قامت ضدها، من موريتانيا إلى باكستان مرورًا بدول الخليج وجامعة الدول العربية، حيث بدا أن كيل الدول السنّية في المنطقة والإقليم طفح فعلاً من تدخلاتها السلبية ومحاولاتها المتكررة منذ 35 عامًا فرض نفسها محورية إقليمية.
بعد التصعيد الإيراني العنيف ضد السعودية، تصاعدت الإدانات الخليجية والعربية والإقليمية متهمة طهران بتسهيل حرق السفارة والقنصلية السعوديتين، وشكّلت نقطة تحوّل انطلاقًا من سياسة «عاصفة الحزم» التي افتتح الملك سلمان بن عبد العزيز بها حقبة جديدة في تصحيح التوازنات وإعادة ترتيب الموقف وتصليبه، في مواجهة الاندفاعات الإيرانية التي طالما دفعت بالمسؤولين في طهران إلى تكرار القول، إنهم باتوا يسيطرون على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت.
الواقع، إن القرار السعودي مواجهة الاندفاع الإيراني في اليمن، الذي وصل إلى حد السعي لإحكام الطوق حول الخليج من مضيق هرمز جنوبًا إلى باب المندب شمالاً، أسس لحقبة جديدة آخذة في الرسوخ والاتساع لمواجهة التدخلات الإيرانية في طول المنطقة وعرضها، وليس مبالغة القول إن القرارات الأخيرة المتخذة في طهران حول مسألة إحراق السفارة والقنصلية السعوديتين، تؤكّد في شكل واضح أن المسؤولين في طهران لم يكن في حسابهم أنهم سيواجهون هذه الغضبة العربية والسنّية الشاملة!
لهذا يرى الكثيرون أن سعي إيران إلى احتواء التوتر القائم مع السعودية والدول العربية، عبر الإعلان عن اتخاذ إجراءات عقابية ضد الذين هاجموا السفارة والقنصلية وأحرقوهما، وبين هؤلاء نائب حاكم طهران لشؤون الأمن صفر علي باراتلو الذي تم استبداله، وأن اعتقالات جديدة شملت الذين شاركوا في الهجوم، إنما يدعو فعلاً إلى السخرية، لسبب بسيط، وهو أن إيران ليست البلد الذي يستطيع فيها نائب حاكم مدينة أن يقرر شخصيًا إحراق سفارة السعودية أو غيرها، وقد قيل إن عملية حرق السفارة والقنصلية تمت على أيدي رجال الحرس الثوري أنفسهم بما يعني أن القرار اتخذ على مستويات عليا.
بالعودة إلى مقال ظريف الذي يحاول ذرّ الرماد في عيون الأميركيين، فإنه يطالب السعوديين بما يطلبه الخليجيون والعرب والعالم من إيران عينها، عندما يقول «إن عليها أن تقوم بخيار من اثنين؛ إما أن تواصل دعم المتطرفين وتشجّع على الكراهية الطائفية أو أن تلعب دورًا بناء من أجل الاستقرار الإقليمي». ولكن، أوليس هذا هو المطلوب دائمًا من طهران، التي تقول إن سوريا هي الولاية الإيرانية رقم 35 وإن بغداد هي عاصمة الإمبراطورية الإيرانية، وإنها تدير صنعاء وبيروت، وتطالب حتى بإلغاء الحدود من طهران إلى سواحل المتوسط في غزة ولبنان؟
الواقع، إن قرار الملك سلمان مواجهة الإيرانيين في اليمن والمضي في تطبيق سياسة أكثر حزمًا، أسّس لسياسة جماعية عربية وإسلامية تركية وحتى باكستانية ضد التدخلات الإيرانية في الإقليم، طبعًا ليس المطلوب الانزلاق إلى حرب مع إيران كما يجزم ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ولكن من الضروري توافر موقف سياسي جماعي يترجم حقبة الحزم ضد التدخلات الإيرانية ويتبنى السياسة السعودية كقاعدة لعمل مشترك بدلاً من المواقف المنفردة في خلال الـ35 عامًا الماضية!
ليس مبالغة القول إن سياسة الصبر وطول الأناة والمراهنة العربية والإقليمية، على أن تتنبه طهران إلى خطورة سياستها على مجمل العلاقات بين المسلمين، إضافة إلى أن القادة في طهران اعتبروا أن انخراط الأميركيين في التفاوض السري معهم لأعوام حول الملف النووي، وتعامي واشنطن عن تدخلاتهم السلبية وعربدتهم طمعًا بدفعهم إلى الاتفاق النووي، يمكن أن يشكّل نوعًا من قبول ضمني للاستراتيجية التي طالما طالبوا بها علنًا؛ أي أن يكونوا قوة محورية وحيدة في المنطقة، بمعنى نعطيكم اتفاقًا نوويًا وتعطوننا دورًا قياديًا في الإقليم، ولكأنه من الممكن أو المقبول تقرير مصير منطقة حيوية مثل الخليج والعالم العربي وراء أبواب أميركية إيرانية مغلقة في عُمان وغيرها!
لكن الأمور ليست هكذا وليس مبالغة القول الآن بعد بيان دول مجلس التعاون الخليجي الصارم ضد التدخلات الإيرانية وبعد قطع العلاقات الدبلوماسية والإجراءات الاقتصادية، ثم بعد البيان الصريح وغير المسبوق الذي أصدرته الجامعة العربية، إنه يمكن الافتراض أو الأمل ولو مبدئيًا بأن إيران قد تعيد حساباتها.
بمعنى أن المواجهة في النهاية ليست مع السعودية التي سئمت العدّ إلى العشرة والمائة لعل التلاعب يتوقف في المنطقة الشرقية والمنطقة العربية، وفي البحرين وفي الرهان على الحوثيين وفي الكويت وحتى العراق، حيث يرفع المرجع علي السيستاني صوته ضد تدخلات إيران والدور المدمر الذي لعبه رجلها نوري المالكي، ولا يجوز الافتراض بأن بوتين يمكن أن يعامل إيران في سوريا كمندوب سامٍ كما فرضت على الأسد أن يعاملها.. لا لقد بدأ الزمن يتغيّر وحتى في أميركا أوباما الذي ينام على ورقة وحيدة هي الاتفاق النووي مع طهران، الزمن ينتهي!
ليس قليلاً أن تعلن الجامعة العربية «التضامن الكامل مع السعودية في مواجهة الأعمال العدائية والاستفزازات الإيرانية ودعم جهودها في مكافحة الإرهاب ودورها في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، واستنكارها التصريحات العدائية والتحريضية الإيرانية ضد السعودية فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بحق عدد من الإرهابيين».
وليس قليلاً أن تطالب الدول العربية السنّية، ومعها تركيا وباكستان، إيران بالامتناع عن السياسات التي من شأنها تغذية النزاعات الطائفية والمذهبية وعن دعم الجماعات التي تؤجج هذه النزاعات في دول الخليج، والميليشيات والأحزاب المسلحة داخل الدول العربية.
وعندما يتحدث الأمير محمد بن سلمان عن «ثاتشرية سعودية» لمجلة «إيكونوميست»، فإنه لا يقصد مسألة التطوير الاقتصادي فحسب، بل موضوع التصليب السياسي الذي يترجم عبر سياسة الحزم، إعادة فرض الدور المحوري السعودي في المنطقة والعالم الإسلامي!
راجح خوري
صحيفة الشرق الأوسط