يواجه الأبناء السوريون الذين يولدون في المنفى تهديداً فعلياً، يتمثل في كونهم عديمي الجنسية. وهي حالة وصفت ذات مرة بأنها “عقوبة أكثر بدائية من التعذيب”. فإن يكون المرء بلا جنسية هي حالة تعني تجريده من الحماية التي توفرها الدولة ومن الحقوق، وأن يُترك عرضة للتفرقة والتهميش.
بشكل عام، فإن “عديم الجنسية” الذي لا يعترف به كمواطن من جانب أي دولة، وتبعاً لذلك لا يتوافر على جنسية أو مواطنة. وبالرغم من “الحق في المواطنة” (المنصوص عليه في المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، والمطروحة في القانون الدولي رداً على مدى التشريد وفقدان الجنسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تستمر حالة اللاجنسية في أن تكون مشكلة عالمية، بوجود تقديرات تفيد بأن هناك نحو عشرة ملايين شخص في شتى أنحاء العالم، (بمن فيهم عدة مئات الآلاف في أوروبا) لا يتوافرون على جنسية. وفي الأثناء، تقدر المفوضية العليا لشؤون اللاجئين أن طفلاً واحداً يولد كل 10 دقائق من دون جنسية.
وينجم عدم وجود جنسية من ظروف متنوعة. وبينما يرث العديد من الأشخاص هذه الحالة من آبائهم، يصبح آخرون بلا دولة ينتمون إليها بسبب فجوات في قوانين الجنسية: الافتقار إلى سجل ولادة؛ أو نتيجة للتمييز ضد مجموعات الأقلية، كما هو الحال في عشرين بلداً على الأقل، والتي تقوم بحرمان الناس من الجنسية أو سحبها منهم على أساس الإثنية أو العرق أو الدين.
مع أن اللاجئين لا يصبحون بلا جنسية بشكل تلقائي، في ضوء طبيعة اللجوء المؤقت، فإن خطر تحولهم إلى عديمي جنسية يزداد مع مرور الوقت. وفي حالة أزمة اللجوء السوري، يحمل الصراع المتواصل احتمال هذه التداعيات طويلة الأمد معه. وكما تذكر صحيفة الغارديان، ثمة خطر حقيقي في أن الأزمة وردود الفعل على القضية ستراكم “مشكلة مخفية لانعدام الجنسية” وستخلق “جيلاً عديم الجنسية” من الأبناء.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الصراع في سورية أفضى إلى تكوين أكثر من أربعة ملايين لاجئ يتنقلون في داخل أربع دول مجاورة، كما أن هناك أكثر من 50.000 طفل سوري ولدوا “في المنفى” منذ بدء الصراع في العام 2011. وتتفاقم مشاكل أن يصبح هؤلاء الأبناء عديمي الجنسية بسبب طبيعة القانون السوري. ويعتبر قانون الجنسية السورية متميزاً بالتفرقة الجندرية، نظراً لأنه يمكن نقل الجنسية للابن من خلال إثبات جنسية الوالد. وبالنسبة للأبناء السوريين الذين يولدون خارج البلد، فإن الحصول على شهادة ميلاد تسجل اسم الوالد يكون معادلاً لذلك من حيث الأهمية. ومع ذلك، يقدر ما نسبته 25 % من أبناء اللاجئين السوريين بأنهم من دون آباء، نظراً لأن العديد من الآباء قد ماتوا أو فقدوا أو انفصلوا عن عائلاتهم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن احتمال أن يولد الأبناء من دون هوية مناسبة تتفاقم مع حجم وثائق تعريف العائلات التي انتهت مدة صلاحيتها أو فقدت أو أتلفت خلال الصراع، بالإضافة إلى العملية المتعلقة بتسجيل الأبناء خلال أوقات التشرد، والتي تنطوي على مصاعب كبيرة. وفي لبنان، يقدر عدد اللاجئين السوريين بأكثر من مليون شخص. والتقارير التي تعرب عن القلق بسبب الافتقار إلى تسجيل السوريين المولودين حديثاً كثيرة. وفي مسح أجري في العام 2014، وجدت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين أن 72 % من السوريين المولودين حديثاً لم يتوافروا على شهادة ولادة رسمية، بينما ذكر مجلس اللجوء النرويجي أن 92 % من اللاجئين السوريين الذين تمت مقابلتهم لم يكونوا قادرين على استكمال العملية القانونية والإدارية اللازمة لتسجيل ولادة أبنائهم في لبنان.
إنهم ليسوا الأبناء الذين يولدون في البلدان المجاورة هم الذين يواجهون حالة اللاجنسية وحسب. فأولئك الذين يولدون في أوروبا أيضاً يواجهون نفس السيناريو. وكما تقول الشبكة الأوروبية حول عديمي الجنسية، فإنه على الرغم من إبرام البلدان الأوروبية لمعاهدة حقوق الطفل التي تلزم الحكومات بموجب القانون الدولي بالوفاء بحق كل ولد بالحصول على جنسية، فإن حالة انعدام الجنسية تسود في أوروبا. ونظراً للعدد المحدود من البلدان الأوروبية التي تتبنى بشكل لائق هذا المبدأ في داخل قانونها المحلي، فإن هناك دولاً تفشل في الوفاء بهذا الالتزام. وكما وجد مرصد الديمقراطية في الاتحاد الأوروبي حول قاعدة بيانات المواطنة على الحماية ضد انعدام الجنسية، فإن تقييم التشريعات الوطنية كشف عن أن 18 فقط من أصل 42 من ضمانات الدول الأوروبية لمنح المواطنة للأبناء عديمي الجنسية، هي التي تفي بالمعايير الدولية. وبالإضافة إلى أنها لا تفي بهذه المتطلبات القانونية الدولية، فإن حالة اللاجنسية تتفاقم أكثر بسبب التطبيق البائس، وأحد الأمثلة الشائعة هو الافتقار إلى إجراءات لتقرير حالة اللاجنسية.
لفهم السبب في بقاء هذه التقصيرات، من الضروري النظر في التفضيلات المتضمة في قوانين المواطنة. ففي كل العالم، ثمة منطقان يتحكمان بالكيفية التي يتم بموجبها منح الجنسية: “الولادة” أو “الدم”. وبينما يستند معيار الولادة في منح المواطنة إلى ولادة الأشخاص في داخل أراضي البلد، فإن عملية منح الجنسية “بالدم” تفضل نهجاً يستند إلى الأصل والأسلاف لتقرير الجنسية.
على الرغم من أن هذا التمييز بين تعريف المواطنة بعبارات تتعلق إما بمكان الولادة أو بالإرث تعتبر في العادة أقل وضوحاً في الممارسة، في ضوء أن قوانين المواطنة لدى الدول تجمع بين كلا النوعين، فإن أوروبا تؤثر منذ وقت طويل مبدأ المقاربة استنادا إلى رابطة الدم. إن هذا التفوق في المقاربة التي تستند إلى النسب، والذي له انعكاسات حادة فيما يتعلق بحالة اللاجنسية في أوروبا، هو الذي يجعل معيار مكان ولادة الشخص أقل أهمية. ويتجسد مفهوم “الدم” عند ألمانيا والدنمارك اللتين تعتبر “ضماناتهما ضد حالة اللاجنسية”، وفق قاعدة بيانات المواطنة الديمقراطية لدى الاتحاد الأوروبي، مقصورة على الأشخاص المقيمين بصورة قانونية في البلد. وتبعاً لذلك، ومتى ما توقفت منزلة “حماية” اللاجئ، فسيكون آلاف الأبناء السوريين من الناحية القانونية بلا جنسية، وحيث لا ضمان لإثبات جنستهم السورية وتأمين عودتهم إلى بلدهم أيضاً. وفي الحقيقة، دعت الشبكة الأوروبية البلدان الأوروبية إلى إقفال هذه الثغرات القانونية لتفادي هذه المحصلة. ويقول نيلس مويزنيكس، مفوض المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان: “إن المنح التلقائي للمواطنة للأبناء الذين سيكونون بغير ذلك عديمي الجنسية هو أفضل آلية للقضاء على حالة اللاجنسية عند الولادة، ولمنع انتقالها من جيل إلى جيل”.
مع ذلك، لا يبعث تعقب سجل أوروبا على الاطمئنان في هذا الصدد، كما ظهر في الأعداد الكبيرة من الأبناء عديمي الجنسية في لاتفيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، والمشاكل التي تواجه مجموعة الغجر ومجموعات الأقليات الأخرى وتفكك يوغوسلافيا السابقة. ولا تكشف هذه الحالات عن مجرد انتشار وضع اللاجنسية في عموم أوروبا (وعالمياً أيضاً)، وإنما تبرز الأهمية المتزايدة باطراد لمعالجة هذا الموضوع.
كما ذكرت المفوضية العليا لشؤون اللاجين بعد التحدث إلى أكثر من 250 طفلاً بلا جنسية، فإن الأثر النفسي السلبي لهذه الحالة يكون بعيد المدى. ولا يعني انعدام الجنسية مجرد وصف شخص بأنه “شبح قانوني” عبر حرمانه الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية والعمل ونظام العدالة الوطنية أو الملكية الشخصية. فثمة العديد من الأولاد الذين وصفوا أنفسهم بأنهم أشخاص “غير مرئيين” أو “غرباء” أشخاص “يعيشون في الظل”. ومن المؤكد أن هذه الحدود البيروقراطية للاستثناء تترك الأشخاص أكثر عرضة للاستغلال. وكما علقت لمى الفقيه من منظمة العفو الدولية على العدد المتزايد من الأطفال عديمي الجنسية في لبنان، فإن من المرجح أن يفضي الافتقار للفرص عند هؤلاء الأشخاص المهمشين إلى ازدياد قابليتهم لارتكاب الجريمة والتطرف.
بينما لا يوجد هناك حل بسيط للمشكلة في ضوء العدد الكبير من الأبناء الذين يولدون في المنفى، فإنه من الواضح أنه على الرغم من أن قوانين الجنسية التمييزية على أساس الجندر تحتاج إلى إصلاح (كما تعهدت حملة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين) فإن الدول الأوروبية تحتاج إلى دعم الالتزام بتوفير المواطنة للأولاد الذين سيكونون بغير ذلك عديمي الجنسية. وعلى الرغم من أن الوضع المؤقت للجوء يوفر ما يشبه الأمن والاستقرار على المدى المؤقت، فإن العديد من هؤلاء اللاجئين سيصبحون عديمي الجنسية من الناحية القانونية، متى ما توقف هؤلاء الأشخاص عن أن يكونوا لاجئين. وثمة خطر كبير في أننا سنشهد ظهور جيل من الأبناء العالقين في ليمبو اللاجنسية، غير قادرين على البقاء في بلدان اللجوء وغير القادرين أيضاً على العودة إلى بلدانهم الأصيلة على حد سواء. وكما قال محمد، اللاجئ السوري ووالد لثلاثة أبناء غير مسجلين، في مقابلة مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين: “ذات يوم سنعود إلى سورية. ولكن كيف سيكون باستطاعتنا ذلك إذا كنت لا أملك طريقة لإثبات أن أبنائي سوريون؟”
ترجمة: عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الأردنية