ستظل لعنة مضايا تلاحق «حزب الله» ورعاته إلى أبد الآبدين. ستظل صرخة الجياع من أطفالها ونسائها وشيوخها تمثّل الكابوس المرعب لأولئك الذين باتوا أسرى أحقادهم المرضية. ستظل تلك الصرخة الدليل الدامغ الأقوى الذي يؤكد أن كل شعارات «المقاومة والممانعة» والادعاءات الإعلامية بخصوص المواجهة مع إسرائيل لم تكن سوى مسرحيات هزيلة، كان الغرض منها التستّر على الكبائر بأدوات ما بعد النفاق، وما بعد بعد النفاق.
كان السوريون يدركون أبعاد لعبة «المقاومة والممانعة» منذ اليوم الأول. لكن المشكلة أن التحالف غير المقدس بين أقطاب الشرّ تمكّن لمدة من الزمن، وفي غفلة منه، من تسويق صورة خادعة مضلّلة بخصوص الحزب المعني، حتى ذاب الثلج وبان المرج، وتبيّن لناسنا الطيبين أن الحزب الذي كان يدّعي أنه حزب المقاومة هو في جوهره حزب مبني على أساسٍ طائفي بغيض، أنهك المنطقة بالتشارك والتضايف مع «داعش»، وسلّمها لفوضى عارمة ستستمرّ على مدى عقود عجاف قادمة. هذا ما لم تتضافر جهود العقلاء من مختلف الأطراف، لوضع حدٍ مطلوب للحالة اللاعقلانية الغرائزية التي تعيشها منطقتنا راهناً.
«حزب الله» يجوّع أطفال مضايا ونساءها حتى الموت، والحجة الأقبح من الذنب أن كفريّا والفوعا تعانيان الحصار ذاته من قبل الآخرين، لأنها حجة لا تسندها الوقائع ولا شهادات المحايدين. لكن يبدو أن الحزب المعني الذي أعلن نفسه وصياً على الشيعة السوريين، ووليّ أمرهم، والمدافع عنهم، والضامن لوجودهم، يعتمد نهجاً وقائياً خاصاً به، فهو الذي يحدد طبيعته وقواعده وكأنه هو الذي حافظ على الشيعة السوريين في كفريا وغيرها، ومكّنهم من أداء شعائر مذهبهم على مدى ألف وأربعمائة عام، وهم الذين يعيشون وسط محيط سني يشملهم من جميع الجهات. واللافت هنا أن الحجة المتهافتة هذه تذكّرنا بتلك التي تمترس خلفها الحزب المعني في بداية الثورة السورية، ليبرّر إرسال قواته لقتل السوريين. وكانت الحجة حينئذ أنه فعل ذلك حماية لمقام السيدة زينب، وبقية الأماكن المقدسة لدى الشيعة.
حصار «حزب الله» لمضايا خطوة في إطار استراتيجية ايرانية مستمرة منذ عقود، تستهدف إحداث تغييرات ديموغرافية، تحسباً أو سعياً لتحوّلات في الجغرافيا السياسية للمنطقة. وهي خطة تُمكّن النظام الإيراني من تجاوز جملة الاستحقاقات في الداخل الإيراني، التي تتصل بحقوق الشعوب الإيرانية من كرد وعرب وبلوش وآذريين وغيرهم، واستحقاقات أخرى تتمحور حول تطلعات شباب إيران ونسائها، ورغبتهم في الاندماج مع محيطهم الإقليمي وعصرهم.
«حزب الله» يفرض الجوع على الأطفال والنساء. وبشار الأسد يضرب السوريين ببراميل البارود، براميل الحقد الدفين، وبالأسلحة الكيماوية، ويمارس القتل الجماعي في المعتقلات. والحرس الثوري الإيراني يشارك بقواته وعبر أدواته وعملائه في قتل السوريين وتجويعهم. وبوتين يضرب السوريين بكل أنواع الأسلحة المجرّبة وغير المجرّبة. كل ذلك من أجل انتزاع الاستسلام من السوريين والسوريات، وهو أمر لم ولن يكون أبداً.
مضايا لم تكن الأولى والوحيدة التي استخدم النظام وحلفاؤه سلاح التجويع ضدها، ولكنها أصبحت الرمز. سلاح التجويع استخدمه النظام منذ البداية ضد مختلف المناطق السورية. استخدمه في داريا والمعضمية وغوطة دمشق وحمص وغيرها من المناطق. أما أهداف هذا السلاح فمتعددة منها: فرض الاستسلام أو الانسحاب على المقاتلين، وإحداث تغييرات ديموغرافية، إلى جانب تمهيد الأرض لدخول المافيات المرتبطة بالنظام على الخط، حتى تتحكّم بإدخال المواد الغذائية والأدوية بأسعار خيالية، هذا مع العلم أن كميات كبيرة من هذه المواد دخلت، وتدخل، سورية عبر برنامج المساعدات التابع للأمم المتحدة، وهي تُسلّم في معظمها للنظام وأتباعه، على أمل أن تكون عوناً للسوريين، لكنها تغدو سلاحاً ضدهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام وحلفائه كالجزيرة مثلاً، تعاني وضعاً مأسويا نتيجة الارتفاع اللامعقول في أسعار المواد الغذائية والطبية، الأمر الذي يؤدي إلى سوء التغذية المزمن بخاصة بين الأطفال، كما ينتشر ما يمكن أن نسميه المجاعة الصامتة. وهذا ما يضغط على السكان، ويرغمهم على اعتبار الهجرة الخارجية الخيار الأقل ضرراً.
الشعب السوري يعيش محنة قاسية نتيجة التناغم بين وحشية النظام وحلفائه ورعاته وسلبية المجتمع الدولي ونفاقه. لكن شعبنا العزيز تمكّن بفعل تضحياته وثباته، وتمسّكه بحقه المشروع في الحرية والعدالة والكرامة، من إسقاط سائر الأقنعة، لتظهر قباحات أصحاب شعارات المقاومة الخلبية والممانعة الادعائية من أسرى النزعة المذهبية على حقيقتها، وليظهر نفاق كل من كان يتشدق بالقيم الإنسانية التخديرية، وبأهمية دعم تطلعات الشعوب ومساعدتها لتعيش عصرها، وتضمن مستقبلاً أفضل لأجيالها القادمة. إنها أيام صعبة نعيشها لا ننكر ذلك، ولكن تجربة السنوات الخمس علّمت السوريين كثيراً، وصقلتهم على رغم كل العذابات والمرارات ومشاعر الإحباط. فسورية ستبقى، وشعبها سيبقى ليبني وطنه من جديد، وطناً خالياً من الاستبداد والإرهاب.
عبدالباسط سيدا
صحيفة الحياة اللندنية