صدمة المعارضة السورية بالموقف الأميركي

صدمة المعارضة السورية بالموقف الأميركي

المعارضة السورية وأمريكا

تبدو المعارضة السورية متفاجئة بالموقف الأميركي في ما يخص الوضع السوري، و”اكتشفت” أن أميركا هي أقرب إلى الموقف الروسي، وتريد إرضاء روسيا. مفاجأة متأخرة خمس سنوات، رغم أن كل التركيز يقوم على أن تلعب أميركا دوراً مختلفاً.

بمعنى أن المفاجأة لم تؤد إلى “قطع الأمل” في الموقف الأميركي، والتفكير في سياسة مختلفة عما مارسته طيلة السنوات الخمس، وفهم لماذا كانت المراهنة أصلاً على أميركا، ولماذا تبيّن أن تقدير الموقف الأميركي كان خاطئاً؟

 حب أميركي
حين بدأت الثورة السورية كانت معظم النخب ترى أنها “الحليف الطبيعي” “للغرب”، وبالأساس لأميركا، هذا ما جعلها تضع كل مراهنتها على دور أميركي، وصل إلى طلب التدخل العسكري.

“انهيار الاتحاد السوفياتي دفع كثيرا من نخب اليسار نحو “الغرب”، حيث انقلبت من “معادٍ شرس” ضد الإمبريالية إلى معادٍ للاشتراكية، يرى أن الرأسمالية هي “المثال” والمطلب”

وإذا كان الصراع مع النظام، الذي كان يعد “اشتراكياً” وحليفاً للسوفيات، قد جعل جزءاً من المعارضة -ومن النخب- يصطفّ مع “الغرب”، فإن انهيار الاتحاد السوفياتي دفع كثيرا من نخب اليسار نحو “الغرب”، حيث انقلبت من “معادٍ شرس” ضد الإمبريالية إلى معادٍ للاشتراكية، ويرى أن الرأسمالية هي “المثال”، والمطلب. لقد انخرطت في التيار الذي “يقدّس” الرأسمالية، ويرى أنه جزء من “الحلف الغربي”.

شهدت مرحلة ما بعد الاشتراكية إطلاق الطغم الرأسمالية مشروع العولمة، الذي يعني في جوهره مصالح الطغم المالية التي أرادت أن ينفتح السوق العالمي أمام حركة الأموال دون قيود، لكي يصبح “الاستثمار قصير الأجل” هو الفاعل الأول، وهذا تعبير مخفف عن عمليات المضاربة المالية التي باتت تطبع النمط الرأسمالي أكثر من أيّ شيء آخر.

ولقد ركّز الخطاب العولمي على “الترابط العالمي” و”الحرية والديمقراطية“، هذه المسألة التي كانت تمسّ بشكل مباشر النخب التي تعيش في نظم استبدادية شمولية؛ لهذا انخرطت تلك النخب في “المسار العولمي”، متبنية خطابه، ومعتبرة أن العولمة “حقيقة” مطلقة، ثابتة ونهائية. وموافقة على أن الرأسمالية هي “نهاية التاريخ”، وأيضاً معتبرة أن هذه “حقيقة مطلقة”.

بالتالي، رأت أنها جزء من هذا التيار العولمي، وكذلك من “الحلف الأميركي” في العولمة، حيث كانوا ينطلقون من محورية الدور الأميركي، وهو ما كانت تؤكده -بالنسبة لهم- سياسات أميركا التدخلية في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مثل التدخل في العراق سنة 1991، وفي يوغوسلافيا السابقة سنوات 1995 و1998. لكن ربما الأهم هو اعتبار أن التغيير الذي حدث في بلدان أوروبا الشرقية (الاشتراكية سابقاً) وفي روسيا، هو من فعل أميركي، ونتيجة العولمة.

هذا “المناخ” هو الذي كان يحكم معظم النخب السورية ومعظم أحزاب المعارضة كذلك، حيث الاصطفاف “الغربي” أولاً، وتبني خطاب العولمة ثانياً، ووضع الأمل في الدور الأميركي ثالثاً.
لهذا حين بدأت الثورة لم يتشكك هؤلاء في أن أميركا سوف تأتي لنجدتهم في مواجهة نظام يعتقدون بأنه ذو جبروت ليس بمقدورهم هم إزاحته، حتى بعد بدء الثورة وانفجار الشعب في حراك مصمم على إسقاط النظام.

هنا استعيدت لحظة “التدخل” في العراق سنة 2003، أي لحظة احتلال العراق دون أن يجدوا في ذلك احتلالاً، وأيضاً لحظة تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا مع بدء الثورة السورية تقريباً، ولهذا كانت الإستراتيجية التي حكمت نشاط بعض أطراف المعارضة، وآمال الكثير من النخب والمعارضين، تتمثل في أن “معاداة أميركا للنظام” سوف تدفعها لأن تستغلّ الحراك من أجل التدخل.

لكن كان يجب “ترويض” الشعب لكي يقبل ذلك، من أجل ذلك جرى وضع “إستراتيجية” تنطلق من البدء بالحديث عن “حماية المدنيين” ويتصاعد لكي يردفه الحديث عن “الحظر الجوي” وصولاً إلى الدعوة الصريحة للتدخل العسكري.

هذا ما ظهر من فرض تسمية أحد أيام الجمع “جمعة حماية المدنيين”، لحقتها بعد مدة “جمعة الحظر الجوي”، ومن ثم مال الخطاب الإعلامي لأطراف معارضة نحو القول بضرورة التدخل العسكري.

في هذه الأجواء تشكّل المجلس الوطني السوري من تحالف جماعة الإخوان المسلمين وإعلان دمشق ومجموعة ليبرالية. الذي تشكّل لكي يكون مدخل الدعوة للتدخل العسكري “الغربي”، وأن ينصّب بديلاً عن النظام عبر ذلك.

“رغم تشكيل الائتلاف، الذي بدا واضحاً أنه أتى في سياق تفاهم أميركي روسي، ظلت الأجواء المنتظرة للتدخل الأميركي، أو بمدّ الكتائب المسلحة “بسلاح نوعي”، هي المسيطرة، وظل التعلق “بالحبيب الأميركي” قائماً”

وكانت المراهنة على تدخل أميركا، خاصة أنه الأساس الذي أقام إستراتيجيته عليه، ونشط لمدة عام لكي يصبح “الممثل الشرعي الوحيد” للثورة، والداعي لإسقاط النظام عبر التدخل العسكري.

ورغم تشكيل الائتلاف، الذي بدا واضحاً أنه أتى في سياق تفاهم أميركي روسي، ظلت الأجواء المنتظرة للتدخل الأميركي، أو بمدّ الكتائب المسلحة  “بسلاح نوعي”، هي المسيطرة، وظل التعلق “بالحبيب الأميركي” قائماً.

المفاجأة
الآن، يتفاجأ هؤلاء بالموقف الأميركي الممالئ لروسيا، والرافض تقديم سلاح نوعي في مواجهة الطائرات التي تقتل الشعب وتدمر المدن والبلدات، ومن ثم قبول المنظور الروسي للحل، الذي يبقي بشار الأسد، على الأقل للسنة القادمة.

مفاجأة كبيرة لنخب ومعارضة ارتبطت “روحياً” بأميركا، وربما يؤدي إلى “جلطة دماغية”، لكن هذه هي الحقيقة التي كانت واضحة منذ البدء، ولكن الانسياق العنيف خلف “الغرب”، والعشق اللامتناهي لأميركا، كان “يعمي الأبصار”، ويدفع إلى تجاهل مواقف أميركية كانت تؤشّر إلى السياسة الأميركية التي لم تكن في وارد التدخل، وحتى الدعم العسكري، أو حتى السياسي.

هذا ما حاولت الإشارة إليه منذ البدء، حيث كان واضحاً أن الأزمة المالية التي حدثت سنة 2008 انعكست سلباً على مجمل السياسة الأميركية التي جرى اتباعها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً منذ رئاسة جورج بوش الابن، حيث أشّر نجاح باراك أوباما برئاسةالولايات المتحدة إلى سياسة انكفائية، تبلورت منذ سنة 2010، وتحددت سنة 2012، بأولوية منطقة آسيا والمحيط الهادي، وهو الأمر الذي كان يعني الانسحاب من “الشرق الأوسط”، وأيضاً تغيير السياسة العسكرية القائمة على التدخل والاحتلال، حيث نجح أوباما تحت شعار سحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، وعدم التورط في حروب جديدة.

ظهر ذلك عملياً في كبح السعي التركي الفرنسي للتدخل عبر الحلف الأطلسي، ورفض إيصال الأسلحة للثورة بعد أن بدأ العمل المسلح ضد النظام، ومنع تركيا من إيصال الأسلحة.

إضافة إلى الموقف الشكلي الذي كان ينتقد عنف النظام فقط، ولم ينطق أوباما برحيل بشار الأسد إلا متأخراً، ولقد طلب أوباما بداية سنة 2012 من روسيا “رعاية مرحلة انتقالية في سوريا، كما حدث في اليمن“، وهي السياسة التي أوصلت إلى صياغة مبادئ جنيف1 في الثلاثين من يونيو/حزيران 2012، والتي باتت السياسة الرسمية للإدارة الأميركية.

وهي التي فرضت السعي الأميركي لتجاوز المجلس الوطني السوري وتشكيل الائتلاف الوطني السوري، الذي كانت مهمته أميركياً القبول بالحل الروسي. ورغم التأكيد الأميركي بضرورة رحيل الأسد، ظل الهمّ الأميركي هو التفاهم مع روسيا، وتقديم التنازلات لها، والتوافق على أرضيتها في ما يتعلق بالحل السوري، مع الاستمرار في منع تسليح الكتائب المسلحة بأهم سلاح ضروري لوقف القتل والتدمير، أي الصواريخ المضادة للطائرات، وتركيز “التدخل” الأميركي على “محاربة داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية) فقط، ومحاولة تحويل الذين يقاتلون النظام إلى قتال داعش فقط، تحت عنوان تدريبهم.

وأخيراً دعم “جيش سوريا الديمقراطية” الذي يقاتل داعش، ويقاتل الكتائب المسلحة كذلك.

كل هذه السياسات لم توصل هذه المعارضة إلى أنه ليس في وارد أميركا التدخل العسكري، بل ظلت المراهنة التي تقيم المعارضة سياستها على أساسها تتمثل في أن أميركا سوف تكتشف أن عليها التدخل العسكري.

وكانت تنتظر هذه اللحظة، لتفاجأ أخيراً أن أميركا أقرب إلى روسيا في الحل السوري، وكما كنت أقول: أميركا باعت سوريا لروسيا. هل يعني ذلك إنهاء المراهنة على “الدعم الأميركي”؟ ربما لا، حيث إن المسار الذي صارت هذه المعارضة به لا يسمح لها “بالخروج عن النص”، فقد انحكمت لسياسة الدول الداعمة، وأيضاً للمنظور “الأيديولوجي” الذي انحكمت له واشتغلت على أساسه، أقصد “التعلق بالغرب”.

أميركا إذن تخون مريديها الذين تعلقوا بشعارات الحرية والديمقراطية، لكن المشكلة في هؤلاء المريدين الذين كان منظورهم الأيديولوجي أقوى من قدرتهم على فهم الواقع، ومعرفة وضع العالم بعد الأزمة الاقتصادية الأميركية، وسياسة أميركا للانسحاب، والتفاهم مع روسيا في إطار تحالف عالمي، كانت ترى أنه ضروري لحصار الصين.

“رغم التأكيد الأميركي بضرورة رحيل الأسد، ظل الهمّ الأميركي هو التفاهم مع روسيا، وتقديم التنازلات لها، والتوافق على أرضيتها في ما يتعلق بالحل السوري، مع الاستمرار في منع تسليح الكتائب المسلحة”

وفي هذا السياق، قبلت أن تسيطر روسيا على سوريا، التي لم تعد تعني شيئاً لها، وفي هذا السياق لم تكن معنية بدعم المعارضة، ولا بانتصار الثورة، الثورة التي تشكّل حالة رعب للرأسمالية عموماً، بل كانت معنية بتدميرها.

لهذا لم تعترض على كل القتل والتدمير اللذين مارستهما السلطة السورية، ولا على تطييف الثورة وتشويهها. وبهذا كانت سياسة المعارضة المراهنة على التدخل الأميركي مضرّة بالثورة ومربكة لها، دون أن تستفيد شيئاً، حيث كانت الأوهام هي محرّكها، والسعي للقفز على السلطة هو هدفها.

لقد “كشفت” المعارضة طبيعة السياسة الأميركية، آمل أن تكتشف السبب الذي جعلها تسير نحو الوهم طيلة سنوات خمس، وأن تعرف أن المصالح هي ما يحرّك الدول الكبرى، وأن مصالح أميركا كإمبريالية الآن هي بالتفاهم مع روسيا، وتقاسم العالم معها، وضمن ذلك تعترف بأن سوريا لروسيا، ولهذا تقبل بالحل الذي يفرضه الروس، وربما تقبل بالحل العسكري الروسي.

وربما ما كانت تسعى إليه سابقاً قد تحقق بقوى أخرى، حيث جرى تدمير سوريا وتهجير أكثر من نصف شعبها، وأعيدت إلى عصور سحيقة، كما فعلت هي في العراق، ويجب أن تعرف أن الدول الإمبريالية ليست حليفة لثورات الشعوب، ولن تكون، بل إن خوفها من الثورات في ظل وضع رأسمالي متأزم يجعلها تدعم تدمير الثورات.

سلامة كيلة

الجزيرة نت