ما يزال الاتفاق النووي مع إيران يناقَش على نحو محموم في الدوائر السياسية الأميركية. ويقول الجمهوريون إن الجانب الأميركي تنازل عن الكثير من دون تلقي أي شيء في المقابل، لأنه ما يزال يسمح لإيران بأن تعمل في تطوير التكنولوجيا النووية، ويقوم بفرض العقوبات ببطء على إيران. وهكذا، ما الذي يعنيه قول “إننا” أعطينا إيران ما أرادته، و”إننا” لم نتلق شيئاً في المقابل؟ من الواضح أن القادة الأميركيين الذين تفاوضوا على هذه الصفقة ظنوا أنهم حصلوا على شيء ما، لأنهم أبرموا الاتفاق. والمعروف في أي مفاوضات أنك تعطي شيئاً لتأخذ شيئاً في المقابل. وإذن، ما الذي أخذته الولايات المتحدة؟
كان موقف إيران قبل المفاوضات هو أن مشروعها النووي مسألة سيادة قومية؛ وأنها تتقيد بالاتفاقيات الدولية، ولذلك ليس ثمة شيء للتفاوض عليه. ثم قادت الولايات المتحدة نظام عقوبات ضد إيران، لتشن عليها بذلك حرباً عبر السبل الاقتصادية بدلاً من العسكرية. و”التحدث” يعني التفاوض على سيادة إيران حول ما تستطيعه وما لا تستطيعه. وقد شكل هذا مسبقاً نصراً سياسياً للولايات المتحدة.
والآن، أصبح من الممكن رفع العقوبات لأنها كانت لها آثارها: فقد وضعت حداً لإصرار إيران على أن برنامجها النووي كان قانونياً من الناحية الدولية؛ كما وضعت حداً لاحتمال إنتاج إيران ليورانيوم بدرجة تخصيب عالية. والآن، نجد أن إيران قد وافقت، على أساس العقوبات، على وقف مدته 15 عاما لتطوير مادة المستحاثات الهيكلية. وبطبيعة الحال، ربما كان بإمكان الولايات المتحدة الحصول على المزيد، لكنها كانت أصلاً صفعة كبيرة لإيران أن تتخلى عن سيادتها من أجل التفاوض مع “الشيطان الأكبر”.
طلب الملالي من البرلمان في إيران مناقشة المعاهدة والمصادقة عيها -وهذا شبيه بالنظام الأميركي من حيث إنهم لا يريدون لهذا الموضوع أن يكون مسألة يوافق عليها رئيسا الدولتين فقط، وإنما ممثلو الشعب أيضاً. وهو انتصار آخر للولايات المتحدة: فعلى إيران أن تسوّق هذا الاتفاق بطريقة ما على أنه شيء جيد لإيران، لأنه يمكنها من العودة إلى لسوق العالمية بأموالها، عندما تكون قد رضخت إلى المطالب الأميركية في كل شيء.
تشير الأسطورة الإيرانية الذاتية إلى أنها نوع من الدولة البديلة المعادية للغرب. وقد شكل الملالي، القوة الأخلاقية ضد الدولة العميلة المكروهة تحت حكم الشاه، دولة تتمتع بصلاحية الفيتو عند المستويات الأعلى من رجال الدين. وبالإضافة إلى ذلك، فهي دولة طبيعية مهتمة بالثروة والنفوذ. ومع ذلك، فإنها ليست لها مطالب إقليمية. إنها تريد سلطة على مناطق من العراق لأن العراق كان قد غزاها في الثمانينيات (من القرن الماضي) بدعم إسرائيلي وسعودي. وهي لا تقدم نفسها على أنها زعيمة للإسلام مثل العربية السعودية، وإنما كأكبر عدو صامد في وجه إسرائيل؛ ولعل جزءاً من هذا الادعاء يتمثل في دعمها للدولة السورية، أو ما تبقى منها، وكذلك الجزء الإسلامي من لبنان. ولهذا كله ملمح دفاعي.
من وجهة النظر الإيرانية، تركت أعوام من العقوبات والتخريب والتدمير الذي لحق بحليفها السوري آثارها. وهكذا، تبدأ حقيقة عدم تعرضها لهجوم عسكري بأن تبدو شيئاً إيجابياً. والأمر مثل إقدام أحد ما على توجيه مسدسه نحو بطنك وسلبك نقودك وإبعاد المسدس، ووصف ذلك كله على أنه تعادل، بلا ربح ولا خسارة.
من وجهة نظر الجمهوريين، لم تحصل أميركا على أي شيء من الصفقة لأن أميركا في حالة حرب شاملة مع إيران، ولذلك سيكون الإخضاع التام للجمهورية الإسلامية فقط محصلة مقبولة. إن أي دولة عدو يجب أن تحطم؛ ورفع العقوبات يعني “الاستسلام” لإيران، وكأن الحالة الطبيعية للأمور تعني استخدام أي وسائل تلزم لتدميرها وتحطيمها. فالجمهوريون الجيدون لا يتفاوضون مع أعداء أميركا؛ إنهم يقصفونهم فقط.
قررت إدارة أوباما عدم تدمير إيران، وإنما قضم سيادتها. ويقول أوباما أنه ليس في عجلة من أمره لتحطيم إيران. كما أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى ذلك لأن إيران يجب أن تكون في نهاية المطاف مفيدة للولايات المتحدة. وهذا يعني أن عليها استخدام سيادتها لفائدة أميركا.
ويقول الجمهوريون أن أوباما أظهر “ضعفاً” من خلال التفاوض مع إيران من الأساس، بدلاً من استخدام الحرب لفرض المطالب. لكن هذا هو عكس الضعف بالضبط. إن قوة الدولة تتمثل في قدرتها على تقرير متى تكون الحرب جديرة بخوضها. والولايات المتحدة تتمتع بموقف رائع لتقرير: هل يجب علينا الذهاب إلى الحرب أم لا؟ والأمة كلها مدعوة للمشاركة في هذا النقاش. وما هي الفرص المتاحة لكسبها؟ وماذا سنكسب؟ في حرب تتعلق بالدفاع عن دولة تتعرض للهجوم، لا يملك أحد ترف طرح هذه الأسئلة، وإنما يقوم الناس بالتعبئة فحسب. لكن هذه حروب اختيار وليست حروباً حول وجود الأمة نفسه. ولا تستطيع إيران فعل ذلك؛ فأسس قوتها في خطر وهي ضعيفة بالمقارنة مع أميركا.
تستطيع الولايات المتحدة أيضاً اختيار السبل التي تريد استخدامها لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط. ويقول أوباما إنه من الأفضل أن تقوم الدول الحليفة بعملها القذر ودعم الانقلابات وعقد المفاوضات. ويتجلى انتصار أوباما الدبلوماسي من خلال تشكيلة لجنة التفاوض: الاتحاد الأوروبي (مع الاعتراف بألمانيا كمصلحة خاصة) وروسيا والصين. وقد جمع أوباما العالم بأسره عبر استخدام “البقع الساخنة” لتنظيم الاهتمامات المتعارضة تحت مظلة أميركا. ويريد أوباما تكوين نظام عالمي عن طريق جمع البلدان مع بضعها بعضا لعزل بلد آخر والحصول على تنازلات.
إنها خاصية أميركية أنها تتخذ مواقف من أسلحة بقية العالم. وهي تنصب نفسها باعتبارها الحكَم النهائي الأعلى الذي يحدد ما هي الأسلحة المشروعة وما هي الأسلحة غير المشروعة، وكأن أميركا هي قوة فوق الصراعات. وهذا يناسب هدفها في أن تكون القوة العظمى الوحيدة في العالم دون منافس. ولكن هذا ليس هو ما يبدو عليه الأمر بالنسبة لمعظم الأميركيين؛ إنهم ينظرون إلى العالم كله على أنه مكان تقرر فيه أميركا أين يجب أن تكون هناك حرب أو سلام، وستكون أي دولة مشاكسة بالتعريف مزعزعة للسلام.
في الأثناء، امتدحت الصحافة الصفقة مع إيران واعتبرتها نصراً للدبلوماسية على القوة، لأن أوباما يوفر على الولايات المتحدة الأميركية خوض غمار حرب أخرى غير كاسبة. ويعتقد العديد من الناس أن للدبلوماسية صلة بعدم العنف لأن الدبلوماسيين لا يحملون البنادق. ولكن، ما هي أنواع المطالب التي تثار في المفاوضات الدبلوماسية؟ إنها نفس المطالب التي تقود إلى الحرب. ويقوم أساس كل الدبلوماسية بين الدول على حجم التهديد الذي يستطيعون التلويح به؛ وتستخدم أميركا كل الوسائل المتاحة لها، دبلوماسية كانت أم عسكرية على حد سواء.
الجزرة هي أن تستطيع دولة الدخول في سوق العالم الرأسمالي، ثم تجرب حظها هناك؛ والعصا تعني التعنت الأميركي في كل الأماكن. وإذا كان أحد ما يعتقد بأن أوباما هو حمامة سلام، وأنه يقدم جزرة لأولئك المنغمسين في صراع مع الولايات المتحدة، فيجب تذكر أن هذا يقود إلى سلام بالتعريف الأميركي إذا وافق الجانب الآخر على التنازل.
مما تجدر ملاحظته أن الاتفاقية النووية مع إيران لا تغير شيئاً في العداوة الأساسية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، باستثناء أنها تعد انتصاراً للولايات المتحدة ولاستراتيجية أوباما. ويقوم أوباما بمناسبة الصفقة للتقدم بمطالب أخرى حول إيران. ويجب أن يكون واضحاً أن هذا لن ينتهي حتى تتحول إيران إلى شيء تجده أميركا مقبولاً.
ترجمة: عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد