«جنيف3» قد تكون آخر طلقة في جعبة المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، الفشل فيه سيعني نهاية مهمته ليسير بذلك في الطريق الذي سبقه إليه كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، اللذان دفعهما الفشل والإحباط إلى الاستقالة من الأزمة السورية. حتى الآن لا يبدو أن دي ميستورا لديه أي أمل في تحقيق اختراق جدي، ورهانه الوحيد هو جمع الأطراف حول الطاولة بأي وسيلة، وبغض النظر عن عدم وجود توافق على خريطة طريق واضحة للحل، على أساس أن الأطراف إذا بدأت تتحدث وتتفاوض فإن ذلك قد يساعد في فتح نوافذ صغيرة لحلحلة العقد تدريجيا ولبدء عملية «بناء الثقة» التي يراها المبعوث الدولي ضرورية لإنجاح المفاوضات.
توجيه بطاقات الدعوة إلى جنيف تحول بسرعة إلى مشكلة معرقلة، لأنه لا يوجد توافق حول من يدعى أو يغيب، وحول من يكون حول الطاولة كمشارك ومن يكون موجودا كـ«مستشار». كل الجهود التي بذلت حتى الآن لتوحيد المعارضة السورية لم تؤدِّ إلى وحدة الصفوف المطلوبة لإنجاح المفاوضات، أضف إلى ذلك أن موازين القوة على الأرض لا تنعكس على طاولة «جنيف 3»، والصراع الإقليمي والدولي ينعكس أيضًا على قوائم المشاركين والمستبعدين. كل ذلك يعني أن هذه الجولة لن تختلف كثيرا في النتيجة عن سابقاتها، بينما معاناة السوريين تتفاقم وأحوالهم تسوء إلى الحد الذي جعل منظمات الأمم المتحدة تصنف أزمتهم بأنها «الأسوأ في القرن الحادي والعشرين»، وهو قرن لا يزال في بداياته على أي حال، والآتي قد يكون أسوأ قياسا على حاضر المنطقة.
الخلافات حول الدعوات ليست مسألة إجرائية أو شكلية، بل تعكس عمق الأزمة، وتعقيداتها، وتشابك المصالح الإقليمية والدولية، وتضارب الدوافع والحسابات. فبينما كانت الهيئة التفاوضية العليا للمعارضة المنبثقة عن اجتماعات الرياض تتباحث حول تشكيل وفدها واستراتيجيتها للتفاوض، دفعت روسيا بقائمتها الخاصة إلى دي ميستورا ودخلت في اشتباك مع تركيا التي ترفض أي مشاركة لـ«الاتحاد الديمقراطي الكردي» مهددة بمقاطعة «جنيف3» إذا وجهت الدعوة لممثليه، فأنقرة تعتبر الاتحاد الديمقراطي «منظمة إرهابية» لصلاته العميقة مع حزب العمال الكردستاني التركي الذي تخوض ضده حربا ضارية. روسيا من جهتها تصر على المشاركة الكردية على أساس أن الاتحاد الديمقراطي فصيل مهم سياسيا وعسكريا وضروري في جهود محاربة «داعش». هذا التجاذب الروسي – التركي يعكس في الواقع حجم التوتر بين البلدين الذي فاقمته حادثة إسقاط تركيا الطائرة الحربية الروسية. أنقرة ظلت لفترة تنظر بعين الشك والغضب إلى الموقف الروسي، لا سيما بعد المساعدات التي قدمتها روسيا للأكراد في فترة حصار كوباني، فوفقا للمصادر الغربية فإن الأكراد عندما لم يتلقوا الدعم الذي طلبوه لفك الحصار عن كوباني لجأوا إلى موسكو التي أمدتهم بشحنات من الأسلحة، وهو الأمر الذي دفع أميركا أيضًا لتقديم العون للأكراد رغم التحفظات التركية.
دي ميستورا قرر تجاوز العقدة الكردية في الوقت الراهن بعدم توجيه دعوة للاتحاد الديمقراطي، وهو موقف أيدته فيه أطراف غربية لأسباب تكتيكية، وأخرى في المعارضة السورية ترى أن الأكراد وإن حاربوا ضد داعش إلا أنهم لا يحاربون ضد قوات النظام السوري. السؤال هو هل يمكن تجاهل المسألة الكردية في أي مشروع للتفاوض أو للحل في سوريا؟ الأمر لن يكون سهلا، خصوصا بعد أن قويت شوكة الأكراد وباتوا قوة لا يستهان بها على الأرض، وتزايدت مخاوفهم وطموحاتهم بعد أن طغت الطائفية والإثنية على الصراع في سوريا، وتشابكت على أرضها المصالح الإقليمية والدولية.
هناك أيضًا مشكلة التنظيمات المتطرفة التي تمثل قوة على الأرض تفوق قوة المعارضين المدعوين إلى «جنيف3»، فإذا كان هناك اتفاق على محاربة «داعش» و«النصرة» فإن التنظيمات المتطرفة الأخرى تبقى عقدة لا يستهان بها، ولا مناص من مواجهتها إن عاجلا أم آجلا. فهذه التنظيمات ترفض مبدأ التفاوض، وقد تدخل في مواجهات مع فصائل المعارضة المتفاوضة، لتضعف بذلك الآمال في حل سلمي قريب. النظام السوري يستشعر أزمة المعارضة وتشتتها، وبالتالي يرى أن الوقت في مصلحته، خصوصا أنه يستعيد مزيدا من الأراضي والمدن مستعينا بدعم إيران وحزب الله وبعض الميليشيات الشيعية العراقية، والغطاء الجوي الروسي.
«جنيف3» لكي يسفر عن أي تقدم حقيقي في اتجاه حل الأزمة السورية يحتاج إلى ثلاثة عناصر مفقودة في الوقت الراهن، هي توحد أطراف المعارضة تحت راية واحدة ورؤية موحدة، وتوافق إقليمي أصبح بعيد المنال مع التأجيج الحاصل على عدة جبهات، وتوافق دولي حقيقي حول الأهداف ليس متاحا الآن مع عودة أجواء الحرب الباردة بين روسيا والغرب. لكل هذه العوامل، إضافة إلى أن أميركا ستدخل في «بيات انتخابي» اعتبارا من الصيف المقبل، فإن حل الأزمة السورية لا يزال بعيدا.
عثمان ميرغني
صحيفة الشرق الأوسط