العصر الصيني السعيد

العصر الصيني السعيد

الصين

يحق للصينيين أن يفخروا، عندما يسمعون من يصف بلادهم بأنها مصنع العالم. تختزل هذه العبارة قصة نجاح باهرة جعلت من الصين عملاقاً اقتصادياً بالاعتماد على نفسها. غير أنه من الخطأ النظر إلى الصين باعتبارها مصنعاً فقط، لأن للصينيين طموحات وأحلاماً أكبر من ذلك. وهم يرون أنه لا يليق ببلدهم أن يظل عملاقاً اقتصادياً وقزماً سياسياً.
ولأنها بلاد الحكمة والصبر، فقد انتظرت نحو نصف قرن منذ ثورتها الشيوعية، قبل أن تبدأ رحلة الألف ميل للوصول إلى المكانة السياسية التي تستحقها.
لا غرابة أن يرث الصينيون الحكمة من جدهم الأكبر، وحكيمهم الخالد كونفوشيوس الذي ترك لأحفاده ميراثاً، من أروع ما أنتجه العقل البشري. إحدى حكمه الذهبية تقول: «إن من يحرك الجبال يبدأ أولاً بحمل الحجارة الصغيرة بعيداً». المعنى هو أن المهام العظيمة تستلزم تمهيد الطريق وإعداده. وقد فعل الصينيون تماماً ما تعلموه، وأصبح كل شيء ممهداً لتدشين قرن الصين كقوة سياسية عظمى، كما هي قوة اقتصادية عملاقة.
على هذا الطريق الممهد، تسير الصين الآن بزعامة رئيسها شي جين بينغ، الذي كانت المنطقة على موعد معه الأسبوع الماضي، خلال جولة شملت السعودية ومصر وإيران.
يدرك الصينيون أنهم لا يستطيعون الوقوف بعيداً، والاكتفاء بمراقبة ما يحدث في الشرق الأوسط والخليج. هذه المنطقة أهم من أن يتركوها غنيمة سهلة تنفرد بها القوى الدولية الأخرى. ورغم وعيهم بخطورة التدخل في منطقة تعصف بها الأزمات، إلّا أن مصالحهم الكبيرة لا تترك لهم خياراً آخر غير المجازفة.
وإذا كان اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة قد تقلص، مقارنة بما كان عليه طوال الخمسين عاماً الماضية، فإن الوضع مختلف بالنسبة للصين. أمريكا أصبحت لديها وفرة نفطية محلية، ومصادر إنتاج دولية بديلة عن الشرق الأوسط، بينما حال الصين على العكس من ذلك، فهي تستورد أكثر من 50% من احتياجاتها البترولية من الخليج، ومن المتوقع زيادة الطلب لديها، رغم الانكماش الاقتصادي النسبي، من ستة ملايين برميل يومياً حالياً، إلى 13 مليون برميل في 2035.
لا تنحصر أهمية المنطقة بالنسبة للصين، في كونها المصدر الرئيسي لاحتياجاتها النفطية، فهي تمثل سوقاً واسعة لاستيعاب المنتجات والعمالة الصينية عالية التدريب، وتمثل أيضاً ملاذاً استثمارياً واعداً للشركات الصينية، ومنطقة جذب للمشروعات العملاقة، كما أن المنطقة، وبسبب موقعها الجغرافي، تعد امتداداً حيوياً لمشروع الصين الأكبر، المعروف باسم مبادرة حزام واحد طريق واحد، وهو مشروع يربط القارتين الأوروبية والآسيوية.
لكل هذه الأسباب تعتبر الصين أن استقرار الخليج والشرق الأوسط، يحقق لها مصلحة استراتيجية، ومن ثمّ فإنها تبذل قصارى جهدها لاحتواء الأزمات التي لا تتوقف.
وإذا لم يكن من المتاح إطفاء الحرائق فعلى الأقل يمكن السيطرة عليها، ومنع تمددها. في هذا الإطار كان دورها النشط في المفاوضات النووية مع إيران، وكانت مسارعتها بإيفاد مبعوث إلى الرياض وطهران أخيراً، لاحتواء التوتر بين البلدين، وتجاهد حالياً لدفع جهود السلام في سوريا.
ولا يغيب عن فطنة القيادة الصينية أن هذا الدور الجديد قد يعرضها للانزلاق في بحار الأزمات العاصفة. وقد يفسر تدخلها في بعض الأحيان على أنه انحياز لطرف ضد آخر. لكنها لم تعد تملك رفاهية المراقبة من بعيد، وقد برهنت في أكثر مناسبة على أنها لا تفتقر إلى البراغماتية في التعامل مع قضايا المنطقة المعقدة، وبما يحقق مصلحتها، متجاهلة أي شعارات تاريخية لا جدوى منها.
الأمثلة على ذلك كثيرة منها تأجيل الرئيس شي زيارته للسعودية في الربيع الماضي، بعد حملة عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن، كي لا يتم تفسير الزيارة على أنها انحياز للعرب ضد إيران. ثم جاء شي الأسبوع الماضي إلى المملكة، وقدم لها ترضية مهمة بإعلانه دعم الحكومة اليمنية الشرعية، وهو موقف كان يمكن أن يغضب الإيرانيين، لولا أنه بعد أيام، وخلال زيارته لطهران منحها مقابلاً سخياً عبر اتفاق شراكة استراتيجية و17 مذكرة تفاهم تشمل مشروعات في مختلف المجلات.
قبل ذلك كانت الصين قد دعت وزير الخارجية السوري إلى بكين، ودعت معه ممثلي المعارضة، وهو ما يعني خطوة للوراء في علاقتها بحليفها القديم بشار الأسد. وفي 2010 وخلال مؤتمر التعاون العربي – الصيني الذي استضافته، رفضت الصين التوقيع على وثيقة تعتبر القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.
ولم تتردد في التخلي عن حليفها القديم القذافي الذي كان أحد أكبر مستوردي السلاح منها، وسمحت بصدور قرار مجلس الأمن بشن غارات ضد ليبيا، بعد أن بات واضحاً أن هذا الحليف انتهى دوره. نفس الأمر فعلته مع حليف آخر هو صدام، حيث يعتبر كثيرون أن معارضتها لغزو العراق، كانت شكلية، لأنها أدركت حتمية سقوطه، ولم تشأ أن تفجر أزمة بسببه مع الولايات المتحدة.
لا يعني هذا أن سياسة الصين في المنطقة هي مجموعة من التراجعات. الأقرب للدقة القول إنها تسعى للتعامل مع كل الفرقاء: العرب والإيرانيين و«الإسرائيليين»، تحقيقاً لمصلحتها هي، في المقام الأول، وهو أمر طبيعي.
تأخر الصينيون كثيراً في المجيء إلى المنطقة، وحان وقت تعويض ما فاتهم. وهم يستدعون في ذلك حكمة ذهبية أخرى من تراثهم الإنساني تقول: «إن أفضل وقت لزراعة شجرة كان منذ 20 عاماً، وثاني أفضل وقت لزراعتها هو الآن». إذن فقد جاؤوا ليبقوا.. مرحباً بهم.

عاصم عبدالخالق

صحيفة الخليج