منذ أن فقد العراق سيادته الوطنية بفعل الاحتلال الأمريكي له في التاسع من نيسان/إبريل عام 2003م، وتعزز ذلك الفقدان مع المستفيد الأول للاحتلال، وهو النظام الإيراني الذي استطاع بواسطة حلفائه العراقيين من السيطرة الشبه كاملة -إن لم تكن كاملة -على مفاصل النظام السياسي العراقي، إذ أصبح العراق في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي وإلى يومنا هذا، يسير في إطار السياسات التي يحددها النظام الإيراني له، وتحديدًا بعد قيام الثورة السورية ضد حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وبروز تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام” داعش” في المشهد العراقي بمستوياته كافة.
وما أدل على ذلك التسيير، ففي الوقت الذي تدرب فيه الولايات المتحدة الأمريكية الفرقتين العسكريتين اللتين كانتا في الموصل في أثناء سيطرة تنظيم الدولة عليها في حزيران/يونيو عام 2014م، تقوم الحكومة العراقية بإيعاز من النظام الإيراني بتوزيع منتسبي تلك الفرقتين على جبهات متفرقة ضد ذلك التنظيم كي تُبطل أو ترجئ -على أقل تقدير -عملية تحرير الموصل.
فالحكومة العراقية خارج حساباتها في الوقت الراهن استعادة محافظة الموصل، فلا يعنيها استلام وزراة الدفاع العراقية معسكرات مخمور في الخامس عشر من شباط/فبراير الحالي، لتخزين فيها ما يلزم من جنود ومعدات عسكرية تحضرًا لمعركة الموصل، كما لا يعنيها وجود قائد عمليات الموصل في محافظة أربيل للتشاور والتنسيق مع القوات الكردية من أجل المشاركة في عملية تحرير مدينة الموصل. وإنما الذي يعنيها بالتحديد هي زيارة قاسم سليماني إلى العراق ما بين 8 إلى 10 كانون الثاني/يناير الماضي، حيث التقى برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي كما التقى أيضا بالقوى السياسية الشيعية والحشد الشعبي وسائر المليشيات الأخرى وبشكل منفرد كل على حدا، موضحًا لهم بأن معركة طهران وبغداد اليوم هي معركة سوريا؛ للحفاظ على حليفنا بشار الأسد هناك، وليست معركة تحرير الموصل من تنظيم الدولة، ولأجل تحقيق ذلك لابد من تقديم كل أشكال الدعم له ويتمثل ذلك في إنشاء ممر “كلودور” يبدأ من الحدود الإيرانية العراقية،مرورا بالأراضي العراقية” سامراء، والعلم، وبيجي، والشرقاط، والحضر، وتلعفر” وصولا إلى العمق السوري.
لكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق لماذا معركة النظام الإيراني في سوريا هي الأهم بالنسبة له من معركة الموصل أو محاربة التنظيم بشكل عام في العراق، خاصة أن التنظيم من الناحية الميدانية أشد خطرا على إيران إذا ما اعتبرنا أن تنظيم الدولة بفرعيه في العراق وسوريا يعملان ضد المصالح الإيرانية وليس لتعزيز مكاسبهما الإقليمية في البيئة العربية على وجه التخصيص؟
وتندرج الإجابة على هذا السؤال في تحليلين الأول، يبدو أن النظام الإيراني لديه تطمينات دولية من حلفائها كالاتحاد الروسي أو من “الشيطان الأكبر” الولايات المتحدة الأمريكية أو قناعة نابعة من النظام الإيراني ذاته مفادها بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح لتنظيم الدولة بإفشال مشروعها المتعثر للتحول الديمقراطي في العراق، وبأن هناك حدود يقف عندها ذلك التنظيم من حيث عملية انتشاره على الخارطة العراقية فسقوط العاصمة العراقية بغداد بيده يعني سقوط المشروع الأمريكي في العراق وهذا لغاية اليوم غير مسموح به. أما التحليل الآخر يرى أن ذهاب إيران إلى معركة سوريا وهو مطمئن إلى حديقته الأمامية العراق، مرده إلى مأسسة النفوذ إيران في العراق إذ أضحى راسخاً ليس باستطاعة التنظيم التأثير فيه بشكل سلبي. وهناك تحليل آخر يرى أن تنظيم الدولة في العراق هو امتداد للسياسة الإيرانية الذي تسعى من خلاله إلى إفراغ العراق من السُنة بشكل عام والسنة العرب بشكل خاص لذلك فهو مطمئن على مكتسباته فيه. وعليه ما أهمية معركة سوريا بالنسبة للنظام الإيراني؟
تشكل سوريا جزءًا أساسيًا في مشروعها الجيوسياسي ويشكل الرئيس بشار الأسد العامود الذي يرتكز عليه نفوذها، على الأقل في المرحلة الحالية، وبالنظر إلى علاقاتها السيئة مع مختلف المكونات السورية، حتى غير السنية، ويشكل خروج سوريا من دائرة السيطرة الإيرانية خسارة من الصعوبة بمكان تعويضها نظرًا لتداعياتها الأكيدة على نفوذها في سائر الإقليم، وتعتبر سوريا خط مواجهة يؤمن لإيران نطاق حماية مهما في مواجهة أعدائها العرب وغيرهم، فضلًا عن مكانتها الرمزية في الفكر الشيعي بالنظر إلى وجود العتبات المقدسة فيها، وتشكل بالمعنى الاستراتيجي ساحة لعزل التأثيرات الخارجية عن النظام الإيراني وامتصاص طاقة الشارع الداخلي عبر تحويلها إلى تأييد الوجود العسكري في سوريا، وبالتالي فإن التراجع عنها قد يؤدي إلى اهتزازات من شأنها التأثير على الأمن القومي الداخلي، ولا تملك إيران المرونة الكافية في سوريا بالنظر لضيق الخيارات وانعدام البدائل لديها.
وقد جاء التدخل العسكري الروسي في سوريا بشكل أو بآخر خدمة لمعركة إيران في سوريا وحفاظًا على مشروعها هناك، إذ سعت طهران إلى توظيف ذلك التدخل بما يخدم معركتها في سوريا ولتحقيق أهداف من قبيل: تحسين الموقف الميداني العسكري لبشار الأسد بما يعزز من موقفه التفاوضي أثناء التسوية الدبلوماسية، الحد من العداء الإقليمي تجاه إيران وحلفائها والهادف إلى ضرب نفوذها، العمل من أجل إيقاف الحرب السورية دون تسليم سوريا لأعداء طهران، وإفشال مخطط إسقاط سوريا بشار الأسد على يد أعدائها واستبدالها بنظام يعاديها وحلفائها، الدفع باتجاه تسوية سلمية للأزمة السورية لا تستند على مرجعية “جنيف-1” التي لم تكن إيران جزءًا منها، والتي قد يفضي تنفيذها إلى فقدها نفوذها في سوريا، وطرح مبادرات وحلول تقوم على المحاصصة الطائفية، كنموذج لبنان وليس نموذج العراق القائم على حكم الغالبية. وقد وضحت تلك الرؤية والمقاصد الإيرانية جلية في المبادرة الإيرانية المعدلة بنقاطها الأربع بشأن التسوية في سوريا، والتي تضمنت تعديلًا للدستور يكفل حماية الأقليات والإثنيات، وانتخابات تحت رقابة دولية، وفقًا لإطلاق النار، شرعنة المليشيات، ثم محاصصة طائفية.
تأتي معركة سوريا بالنسبة للنظام الإيراني في إطار تحقيق الحلم الإيراني من خلال تطوير استراتيجية الوجود العسكري في الدول العربية إذ عمدت إيران إلى نقل نشاطها العسكري إلى بعض الدول، فتجاوزت تجنيد العملاء إلى تكوين ألوية عسكرية غير إيرانية مع قيادات محلية تعمل تحت توجيهها لتحقيق استراتيجيتها في المنطقة. وقد أشار، الجعفري، القائد العام للحرس الثوري، إلى وجود عدد من القوات العسكرية لإيران في سوريا، والعراق، ولبنان، مؤكدًا أن الجهاد سيستمر إلى جانب الحلفاء في سوريا، ولبنان، والعراق، وأن الحرس قد قام بتقديم مساعدات مادية ومعنوية للمقاومة “الإسلامية” هناك.
ولكسب معركة سوريا لعب اللواء قاسم سليماني، قائد قوات القدس التابعة للحرس الثوري، دورًا خطيرًا في إدارة مجرياتها، إذ أسس شبكة المقاتلين الإيرانيين بالوكالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، واستخدم وسائل مبتكرة لدعم الجيش السوري في معركته ضد المعارضة والجماعات المسلحة. وشكّل خلايا ومجموعات مقاتلة شبيه بحزب الله، واستقدم ميليشيات عراقية شيعية بذريعة الدفاع عن المراقد المقدسة بسوريا، كما تم الاعتماد على مرتزقة الأفغان الموجودين في إيران، واستورد مقاتلين شيعة من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان وباكستان وغيرها من الدول.
وبذريعة الدفاع عن المراقد الشيعية الموجودة في مختلف المناطق السورية تم استدعاء حزب الله للقتال داخل سوريا بعدما فشلت قوات الرئيس السوري بشار الأسد من سحق الثورة السورية، مع محاولة طهران تشكيل نسخه سوريه منه، حيث سعت طهران إلى تنظيم اللجان الشعبية وتحويلها إلى قوات الدفاع الوطني، كما استنسخت تجربة “الباسيج” الإيراني وفي هذا الصدد يقول العميد حسين همداني في الحرس الثوري ومستشار القائد العام فيه، إن أحد أهم إنجازات الثورة الإيرانية هو إنشاء هيئة تعبئة عامة للتعمير في سوريا تحت اسم “جهاد البناء”، وتعمل على الطريقة نفسها والأهداف لهيئة تعبئة التعمير في إيران، وهو ناتج تصدير ثقافة الثورة إلى الدول الإسلامية وأن تحرك الثورة في هذا الاتجاه خارج الحدود قد أدى إلى “صحوة إسلامية” في الدول المختلفة.
بالتوازي مع إرسال المستشارين والخبراء العسكريين، توفير الموارد البشرية، وتقديم الذخيرة والسلاح، والإشراف على تشكيل مليشيات سورية، ولم تمنعها أزمتها الاقتصادية الخانقة من فتح مصارفها أمام المساعدات المالية، وتقديم خطوط ائتمان مالية تصل إلى حدود خمسة بلايين دولار أمريكي، وإرسال المشتقات النفطية والمواد الغذائية.
ومن أجل كسب النظام الإيراني معركته في سوريا لم يتوانى بتاتًا عن توظيف العامل الطائفي في سوريا، إذ قام باستقطاب أكبر عدد ممكن من أبناء الطائفة الشيعية للقتال في سوريا، وذلك عبر ترويجه المكثف لما أسماه “الجماعات السنية الجهادية التكفيرية” بوصفها تهديداً ليس فقط للنظام السوري”العلوي” وإنما للهوية الشيعية في بيئة الشرق الأوسط. ولم يتوقف هذا التوظيف للعامل الطائفي عند هذا المستوى بل سعى النظام الإيراني إلى إحداث تغييرات ديموجرافية داخل سوريا على أساس طائفي، فاقترحت نقل السكان الشيعة من قريتي كفريا والفوعة في محافظة أدلب إلى بلدة الزبداني الحدودية، في حين اقترحت نقل سكان الزبداني السُنة إلى المناطق ذات الغالبية السنية مثل حماة، بما أن معظمها تحت سيطرة الجماعات الإسلامية السنية بينما تقع الزبداني على الحدود مع لبنان، الأمر الذي من شأنه مساعدة النظام الإيراني على ترسيخ سيطرته على ما يعتبره معاقل النظام السوري الذي يجعل موقعه الجغرافي طرقًا لإمداد النظام وحلفائه، فضلًا عن تحويل سكان هذه المناطق إلى موالين متشددين بما يسمح للنظام الإيراني ممارسة نوع من النفوذ على غرار تلك الذي يمارسه حاليًا حزب الله في جنوبي لبنان.
فوفق هذه المعطيات يقود النظام الإيراني معركة الحفاظ على النفوذ والمكاسب الاستراتيجية في سوريا فهو يسعى عبر نجاحه في سوريا في الحفاظ على تمدده الإقليمي “الدائري”، حيث وجود قاعدة جماهيرية شيعية، مثل اليمن والبحرين، أو مراكز ضغط شيعية، مثل حزب الله في لبنان، والوجود الشيعي في العراق. ناهيك عن شيعة باكستان وأفغانستان.
بناء على ما تقدم يمكن القول أن الحضور الإيراني في مجريات الثورة السورية يمكن اعتبارها معركة النظام الإيراني في سوريا بامتياز لتوفر قناعة لديه مفادها أن بقاء بشار الأسد في منصبه هو الضامن الوحيد لاستمرار النفوذ الإيراني في البيئة العربية وأن رحيله عن الحكم يعني نهاية هذا الوجود، إذ عدا مقولة “المقاومة” فإن أغلب الاستثمارات الإيرانية في سوريا لم يجر تسويتها وفق اتفاقيات دولية، ولم يصر إلى تحويلها لأصول ثابتة، بل جرى تسييلها في الاقتصاد والدعم العسكري نتيجة تفاهمات ضمنية وهي معرضة للفقدان والخسارة في حال رحيل بشار الأسد، وبالتالي فإن هامش المناورة أمام النظام الإيراني في هذه القضية يبدو مغلقًا ولا بدائل له حتى لو كان البديل من بطانة الأسد وطائفتة.
وفي هذا السياق العام لأهمية معركة سوريا بالنسبة للنظام الإيراني لا يبدو الأمر مستغربًا حينما أصدر قاسم سليماني في اجتماعه المشار إليه آنفًا أوامره، للقوى السياسية الشيعية بما فيهم رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بجعل معركة سوريا هي معركة إيران وحلفائها في العراق التي يجب عليهم خوضها وليس معركة تحرير الموصل، وعليه طهران تصدر الأوامر وما على بغداد إلا تنفيذها.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية