رغم اتخاذ بعض دول الشرق الأوسط خطوات حثيثة في اتجاه احتواء مطالب الأقليات، سواء كانت عرقية أم دينية أم طائفية أم حتى اجتماعية، مثل الجزائر وتونس والمغرب؛ إلا أن العلاقة بين حكومات أخرى وبعض الأقليات في دولها تظل متعثرة، خاصة في ليبيا وإيران. وقد تبنت بعض الحكومات في الشرق الأوسط عدة استراتيجيات لاحتواء مطالبهم، أبرزها تكريس حقوق الأقليات في الدساتير، واتخاذ بعض الخطوات الإجرائية والقانونية لتنفيذ مطالب الأقليات. لكن ذلك لا ينفي أن بعض تلك الأقليات لا تزال في بداية طريقها للحصول على مطالبها المشروعة.
أسباب متعددة:
دفعت حزمةٌ من الأسباب حكومات الشرق الأوسط إلى المُضيِّ قُدُمًا في طريق الاستجابة لمطالب الأقليات؛ حيث ارتبطت أغلبها بعمليات تصعيد من جانب تلك الأقليات، اتخذت عدة صور، يأتي في مقدمتها بروز نمط المواجهات الطائفية العنيفة في بعض المناطق، مثلما حدث في الجنوب الجزائري خاصة في غرداية بعد وقوع مصادمات بين الأمازيع والعرب أدت إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، وهو ما دفع الحكومة الجزائرية لإعادة النظر في مسألة حقوق الأمازيغ، خوفًا من تحول تلك الاحتجاجات إلى مطالبات بالاستقلال في المستقبل، لا سيما مع وجود بعض الأطراف التي يمكن أن تغذي وتدعم هذا التوجه.
ويضاف إلى ذلك، التخوف من تكوين كيانات خاصة بالأقليات داخل بعض الدول للدفاع عن حقوق تلك الأقليات، مما يمكن أن يهدد بنية وتماسك الدول، وهو ما برز في حالة ليبيا؛ حيث كشف إبراهيم مخلوف رئيس المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا عن شروع الأمازيغ في تكوين “مجلس أعلى للدفاع عن الحقوق الفكرية واللغوية للأمازيغ”.
كما تشهد المملكة العربية السعودية احتجاجات طائفية في المنطقة الشرقية، خاصةً بعد تنفيذ حكم الإعدام في نمر باقر النمر (رغم وجود أدلة دامغة على تورطه في أعمال إرهابية)، وهو ما تكرر أيضًا في بعض المناطق الشيعية في البحرين.
إجراءات الاحتواء:
بدأت بعض الحكومات في إدراك ضرورة سرعة التعاطي مع مطالب الأقليات من أجل مواجهة التداعيات المحتملة التي يمكن أن يفرضها تصاعد حدة التوتر في المناطق التي تقطنها. وفي هذا الإطار، اتخذت بعض الحكومات حزمةً من الإجراءات تتنوع بين الدستورية والإجرائية لتلبية مطالب الأقليات، يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:
1- دسترة حقوق الأقليات: بدأت بعض الدول التي لديها خلافات قديمة مع الأقليات في السعي لإقرار حقوق بعض الأقليات في الدساتير، وفي مقدمتها الجزائر. فعلى الرغم من عدم الانتهاء من التعديلات الدستورية حتى الوقت الراهن، فإن مدير ديوان رئاسة الجمهورية أحمد أويحيى كشف في مؤتمر صحفي عُقد في 5 يناير 2016 عن أن الدستور الجديد سيتضمن حزمة من التعديلات الهامة التي تتعلق باحترام الأبعاد الثقافية والحضارية للأقليات، مؤكدًا أنه سيتم النص على اعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية في البلاد، وهو ما يعد أحد المطالب الرئيسية للحركة الأمازيغية في منطقة القبائل.
غير أن تجربة دسترة حقوق الأقليات -خاصة الأمازيغ- ليست جديدة على دول المنطقة، فالمغرب كان لها السبق في هذا الإطار؛ حيث قامت الحكومة المغربية بإقرار حقوق الأمازيع في التعديلات الدستورية التي أجريت في منتصف 2011 على خلفية الحراك الذي شهدته البلاد. لكن على الرغم من ذلك، لا يزال أمازيغ المغرب يُعانون من عدم ترجمة النصوص الدستورية إلى قوانين وتشريعات حتى يتمتعوا بحقوقهم المنصوص عليها في الدستور، غير أن النص على الحقوق في الدستور يعد خطوة على طريق حصول أمازيغ المغرب على كامل حقوقهم.
2- اتخاذ خطوات إجرائية وقانونية: بدأت بعض الحكومات في اتخاذ خطوات ذات طبيعة إجرائية لحل أزمة بعض الأقليات الاجتماعية، فمع تفاقم أزمة البدون في الكويت، بدأت الحكومة في البحث عن حل لأوضاعهم عبر إنشاء الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية “البدون”، الذي انتهت المهام المكلف به ولكن لم يتم حله بعد وفقًا لتصريح صالح الفضالة رئيس الجهاز في 28 أكتوبر 2015.
3- تقديم تعهدات بتنفيذ تلك المطالب: فقد تضمن البرنامج الانتخابي للرئيس الإيراني حسن روحاني بعض الوعود الخاصة بتوسيع هامش الحريات العامة وإنهاء اضطهاد الأقليات وتبني سياسة جديدة تقوم على منع التمييز العرقي والمذهبي وتنمية المناطق التي تقطنها الأقليات، كما سعى إلى تأسيس مكتب لشئون الأقليات بهدف دراسة مطالبهم المختلفة.
خلافات معقدة:
على الرغم من حدوث تطور نسبي في العلاقة بين بعض الحكومات والأقليات، إلا أنه لا تزال هناك حكومات أخرى في الإقليم لم تلتفت حتى الوقت الراهن لمطالب الأقليات فيها، ومنها ليبيا، حيث ما زالت هناك تيارات تتبنى موقفًا رافضًا لتضمين الدستور الليبي الحقوق الأمازيغية، خاصة اعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية في البلاد بجانب العربية، وهو ما أدى إلى تزايد معدلات الاحتقان لدى الأمازيغ، مهددين بحمل السلاح دفاعًا عن حقوقهم المهدرة. هذا، ولا تزال العلاقة بين الحكومة الإيرانية والأقلية الأحوازية ذات الأصول العربية تعاني من حالة انسداد لا يبدو أنها في طريقها للانفراج، إذ سعت الحكومات الإيرانية المتعاقبة إلى محو الهوية العربية في الأحواز، فضلا عن تجريدهم من كافة حقوقهم بشكل تام.
استغلال خارجي:
من أبرز التخوفات التي أصبحت تثيرها العلاقة الملتبسة بين بعض الحكومات والأقليات الموجودة بداخلها؛ مسألة الاستغلال الخارجي لتلك الخلافات الداخلية. ففي الجزائر، وقعت اشتباكات في فبراير من عام 2015 بمدينة غرداية جنوب الجزائر بين السكان العرب الذي يتبعون المذهب المالكي، والسكان الأمازيغ أصحاب المذهب الإباضي، وأسفرت عن مقتل أربعة أشخاص وجرح المئات، وهو ما دفع الأمازيغ إلى توجيه اتهامات للحكومة بالانحياز للعرب، وحملوها مسئولية التدهور الأمني.
هذا بالإضافة إلى المظاهرات التي وقعت بمنطقة القبائل في إبريل 2015 بمناسبة مرور 35 عامًا على ما يسمى بـ”الربيع الأمازيغي”، والتي كان قد دعا إليها حزب “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” ذو التوجهات العلمانية، وحركة “الحكم الذاتي” في منطقة القبائل. وفي إطار الخلاف الجزائري- المغربي حول قضية الصحراء الغربية، طالب أحد أعضاء البعثة المغربية في الأمم المتحدة، في نوفمبر 2015، بإدراج حماية “شعب القبائل” ضمن جدول أعمالها وفقًا لميثاق الأمم المتحدة والإعلانات الأممية ذات الصلة.
كما تستغل إيران الخلافات بين الحكومة والشيعة في البحرين للتدخل بشكل مستمر في الشئون البحرينية، وهو ما وصل إلى حد تبادل الاتهامات بينهما، بلغت ذروتها باتهام طهران -خاصة الحرس الثوري- بدعم عدد من التنظيمات الإرهابية التي تستهدف قوات الأمن البحرينية. ذلك في الوقت الذي تستغل فيه طهران كافة المناسبات لتوجيه انتقادات للحكومة البحرينية خاصة في ملف الشيعة.
خلاصة القول، يبدو أن مسألة إعادة النظر في مطالب الأقليات لم تعد اختيارًا لأنظمة الحكم في الشرق الأوسط، خاصة أن بعض تلك الأقليات بات يمارس دورًا يمكن أن يؤثر على الاستقرار السياسي والسلم المجتمعي فيها، علاوة على تزايد احتمالات استغلال بعض الأطراف الخارجية لقضايا الأقليات، والذي أصبح يمثل تهديدًا لسيادة الدول، ويعد انتهاكًا لمبادئ الأمم المتحدة خاصة عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول.
وحدة التحولات الداخلية
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية