خيارات العراق ما بعد «داعش»

خيارات العراق ما بعد «داعش»

داعش-في-الفلوجة-عاجل-العراق-الان

على الرغم من كل ما يمثله الطموح لإسقاط تنظيم «داعش» في العراق من إيجابيات، وعلى الرغم من جدية ما يتحقق الآن من نجاحات تبشر بأن القضاء على «داعش» في العراق بات قريب المنال، ولم يعد عصياً عن التحقيق إلا أن العراق يبدو أنه على موعد مع كوارث أخرى جديدة تفوق كارثتي الاحتلال الأمريكي عام 2003 والاحتلال «الداعشي» في 2014. الطريق إلى هذه الكوارث يتلخص في الإجابات المتعددة لسؤال: وماذا بعد القضاء على «داعش» ومن سيملأ فراغ انسحاب «داعش»؟
الإجابات المتعددة عن هذا السؤال تلتقي كلها حول مسار واحد هو «تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات أحدها عرقي هو الكيان الكردي الذي أضحى على تماس مع إعلان الانفصال والاستقلال الكامل عن العراق، وكيانان طائفيان أحدهما شيعي والآخر سُني.
لم يستطع احتلال الأمريكيين للعراق فرض خيار التقسيم الذي كان الراية البارزة لغزوة الأمريكيين للعراق واحتلاله. جاء الغزو بدعوى إعادة ترسيم الخرائط السياسية، ووضع دستور عراقي يحمل في طياته بذور التقسيم من خلال تكريس «المحاصصة السياسية»، لكنه، وعلى الرغم من كل ما أحدثه الاحتلال من تدمير للعراق إلا أنه لم يستطع فرض خيار التقسيم، لكن الأكراد ظلوا يعملون، منذ نهاية حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي عام 1991، لفرض خيار الاستقلال وتفعيل مبدأ«حق تقرير المصير»، ورغم كل ما حصلوا عليه منذ ذلك التاريخ بدعم أمريكي- بريطاني واضح وصريح، ودعم ومساندة «إسرائيلية» خفية لكنها أكثر فاعلية، إلا أنهم لم يستطيعوا اتخاذ قرار الاستقلال والانفصال عن الدولة العراقية رغم كل المشاكل العويصة مع بغداد، لكن يبدو أن وجود قناعة بأن التخلص من «داعش» في العراق بات وشيكاً سيحقق كل ما عجزت تلك الأحداث عن تحقيقه بالنسبة لخيار «تقسيم العراق» الذي، إن حدث، سيكون بداية لانفراط عقد العديد من الدول العربية وتحول هذا الخيار من خيار عراقي إلى خيار عربي وربما إقليمي.
مؤشرات ذلك كثيرة أبرزها الإجراءات الكردية الأخيرة التي توحي بأن عام 2016 لن ينتهي إلا وستكون الدولة الكردية في العراق قد أضحت واقعاً مؤكداً، كل هذا يحدث جنباً إلى جنب مع الحرص التركي الشديد على إبقاء القوات التركية التي أرسلت إلى «بعشيقة» بالقرب من الموصل استعداداً لدور تركي منتظر في معركة «ملء الفراغ» المؤكدة بعد القضاء على «داعش» وبالذات في كركوك والموصل وهي مواقع الطموحات التركية التاريخية منذ نشوء العراق الحديث، وهي طموحات سوف تصطدم حتماً مع مطامع كردية في المدينتين وجوارهما، ما يعني أن صدامات دامية سوف تحدث حتماً بين الأتراك والأكراد لحسم من سيفوز بضم كركوك والموصل بعد القضاء على تنظيم «داعش» وهي صدامات يصعب تصور أن الدولة المركزية في بغداد ستكون بعيدة عنها.
فالأكراد الذين يروجون لمعلومات تقول إنهم حصلوا على اعترافات من 60 دولة من دول العالم بينها دول أوروبية رئيسية بالدولة الكردية لحظة إعلانها يواصلون حفر خندق بطول 1400 كيلو متر وعرض ثلاثة أمتار وعمق ثلاثة أمتار أيضاً من ناحية ربيعة في محافظة نينوى الحدودية مع سوريا، مروراً بمناطق زمار وشيخان وبرطلة وبعشيقة والحمدانية ومخمور وكوير في المحافظة نفسها، وصولاً إلى دبس وطوز خورماتو في محافظة كركوك، وانتهاء بكفري وقرة تبة وجلولاء في محافظة ديالى عند الحدود الإيرانية. حفر هذا الخندق الطويل تشرف عليه حكومة أربيل من دون مشاورة مع السلطات المركزية في بغداد، ومن دون اكتراث لأي معارضة من بغداد، على الرغم من أن هذا الخندق يضم داخله معظم الأراضي المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، والتي تأتي في مقدمتها كركوك وأنحاء سنجار وزمار والقحطانية ومخمور فضلاً عن خانقين ومندلي وبدرة وكفري، وهي المناطق الغنية بحقول النفط والتي يعني ضمها إلى الدولة الكردية تأمين قدر كبير من مقومات اقتصاد قادر على البقاء بالنسبة لهذه الدولة.
هذا يعني أن الانقسام، إن حدث سيكون دموياً، لكن الأخطر منه هو الخطوة اللاحقة بالنسبة لما بقي من محافظات العراق التي ستكون أمام ثلاثة احتمالات: الأول احتمال قيام دولة مركزية موحدة يسيطر عليها الشيعة، وهذا خيار مرفوض بالمطلق من جانب سُنة العراق ومن جانب دول عربية وخاصة السعودية التي تخوض صراع نفوذ مع إيران في العواصم العربية الأربع المتنازع عليها: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. أما الاحتمال الثاني، فهو قيام دولة وطنية ديمقراطية غير مذهبية، لكنه احتمال يتعارض مع المشروع الإيراني في العراق ومصالح القوى والأحزاب الشيعية المسيطرة، أما الاحتمال الثالث فهو فرض دولة سُنية إلى جانب الدولة الشيعية، أي فرض خيار التقسيم الكامل للعراق إلى كيانات أو دويلات ثلاث: كردية وشيعية وسُنية.
هذا الخيار الأخير يبدو أنه بات مطلباً لأحزاب وقوى وزعامات سُنية عراقية تروج بقوة لشعار «المظلومية السُنية»، وهي دعوة تعيد تاريخياً دعوة «المظلومية الشيعية» التي ظل شيعة العراق يروجون لها على مدى عقود طوال.
الترويج الراهن ل«المظلومية السُنية» يتزامن مع توقعات الانتهاء من تحرير المحافظات العراقية المحتلة من تنظيم «داعش» والقضاء على هذا التنظيم، واستباق حدوث «فراغ القوة» الذي سينشأ في حالة حدوث ذلك استعداداً لفرض خيار الدولة السُنية أو الإقليم السُني، ويبدو أن الجرائم البشعة التي ارتكبت من بعض فصائل الحشد الشعبي في «المقدادية» بمحافظة ديالى قد جاءت لتمكن هذا الخيار من تحقيق نجاحات ملموسة.
فاتحاد القوى العراقية، وهو أكبر الكتل السُنية في البرلمان العراقي أعلن يوم الثلاثاء (26/1/2016) مقاطعته جلستي الحكومة والبرلمان احتجاجاً على أحداث المقدادية، في حين دعا طارق الهاشمي نائب رئيس العراق الأسبق (الهارب من أحكام بالإعدام) الدول الخليجية وخاصة السعودية إلى نصرة أهل السُنة في العراق معتبراً أن«المقدادية تتعرض لتطهير عرقي فيما إخوان لكم محاصرون تحت النار في الفلوجة».
تركيز الهجوم على فصائل الحشد الشعبي، يبرز الحرص على تكثيف دعوة «المظلومية السُنية» مع دعوة إلى «تدويل قضية المقدادية» في حين أن جرائم أخرى ارتكبت على أيدي البشمركة الكردية ضد قرى ومناطق عربية سُنية باعتراف تقرير لمنظمة العفو الدولية لم يحظ باهتمام مشابه لأنه لا يخدم دعوة «المظلومية السُنية» التي تهيئ الظروف لفرض خيار الدويلة السُنية أو الإقليم السُني، وهي الدعوة التي بدأت تجد لها من يدعمها ويساندها حسب معلومات نشرتها صحف عربية نقلاً عن موقع«تسنيم»القريب من الحرس الثوري الإيراني تقول إن«مسؤولين أمريكيين من الاستخبارات المركزية الأمريكية والخارجية ولجنة الأمن القومي في الكونغرس التقوا مسؤولين عراقيين من كل الأطياف في أوقات مختلفة في لندن وأربيل وبغداد وعمّان، وأبلغوهم كما أبلغوا عواصم مؤثرة أن «هناك عجزاً غير قابل للمعالجة إذا استمر الحكم العراقي على وضعه الحالي» وأن الحل يكمن في «القبول بثلاثة أقاليم رئيسية تخضع لحكم فيدرالي في بغداد»، وأن هذا هو الحل الأفضل والشرط الأهم للقضاء على «داعش» وتطهير العراق منه، وإنهاء كل السلطات الثانوية التي تحل محل الحكومة الآن، خصوصاً الميليشيات التي تخضع لأوامر إيران».

هل يمكن أن تكون الفيدرالية هي ثمن القضاء على «داعش»؟

سؤال يجب أن يلقى الإجابة من المعنيين بمستقبل العراق ووحدته عراقيين كانوا أم عرباً لأن مصير الجميع واحد ومترابط، ولن يكون هذا الخيار التقسيمي هو خيار أو قدر العراق وحده.

د.محمد السعيد إدريس

صحيفة الخليج