كان طبيعيا تعليق اعمال لقاء جنيف في ضوء حوار الطرشان الدائر فيه. لا يمكن ان يكون هناك من معنى للقاء المخصص للازمة السورية في غياب اتفاق بين القوى المؤثرة، في مقدّمها الولايات المتحدة وروسيا، على انّ المرحلة الانتقالية تستهدف نقل السلطة، اي خروج بشّار الاسد ونظامه من دمشق. ولكن ما العمل عندما تكون هناك سياسة روسية ذات اهداف واضحة، فيما الادارة الاميركية تدعم هذه السياسة القائمة على التخلّص من الشعب السوري؟
كلّ ما عدا ذلك، اي كلّ ما يبتعد عن المرحلة الانتقالية تمهيداً للانتهاء من النظام، اضاعة للوقت ليس الّا وتجاهل لواقع يتمثّل في انّ النظام السوري سقط ولا وجود لحلول سياسية او عسكرية يمكن ان تعيد الحياة اليه بأي شكل من الاشكال. هل تفهم روسيا، ومعها ايران، ذلك؟
من يعود قليلا الى خلف، يكتشف انّ ليس في الامكان التفاوض مع النظام السوري او الدخول معه في نقاش من ايّ نوع. هذا النظام لا يمكن التعاطي معه بعقلانية لسبب في غاية البساطة. في اساس هذا السبب انّه لا يؤمن بتقديم اي تنازل من ايّ نوع. هذا نظام لا يفاوض. عندما يكون قويّا، حتّى لو كان مصدر قوّته كما هي الحال الآن، هو الخارج، يؤمن بانّ اي تنازل علامة ضعف. وعندما يكون ضعيفا، لا يقدم على ايّ خطوة ذات طابع ايجابي نظرا الى الحاجة المستمرّة لظهوره في مظهر القويّ، القويّ على شعبه طبعا.
في مثل هذه الايّام قبل اربعة وثلاثين عاما، ارتكب النظام السوري مجزرة حماة التي راح ضحيّتها الآلاف. تذرّع بجرائم الاخوان المسلمين، وكان بعضها جرائم حقيقية، ليقضي على مدينة ويدمّر احياء كاملة فيها. اراد ان تكون حماة امثولة لكلّ سوري يتجرّأ على رفع رأسه. من لم يتعّظ من مجزرة حماة، اتعّظ، قبل ذلك، من مجزرة سجن تدمر في 1980 بعد تعرّض حافظ الاسد لمحاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة. كان الانتقام بالاغارة على نزلاء السجن وقتل معظمهم بطريقة وحشية.
مع مرور الوقت وتقبّل العالم لمجزرة حماة، باعتبارها حدثا عارضا وعابرا في آن، تابع النظام السوري مسيرته التي كان بدأها منذ اللحظة الاولى لوصول حافظ الاسد الى السلطة وخوض حرب تشرين في 1973 تمهيدا لدخول لبنان رسميا في العام 1976. دخلت قوات النظام السوري واجهزته لبنان بغطاء عربي واميركي واسرائيلي من اجل وضع اليد على منظمة التحرير الفلسطينية من جهة ووضع الاسس لحلف الاقلّيات بدءاً بأضعاف الوجود المسيحي في الوطن الصغير من جهة اخرى. لم تنج مدينة او قرية لبنانية من ظلم النظام السوري الذي استهدف اوّل ما استهدف القرى المسيحية الحدودية مثل القاع والعيشية، ثم زحلة والاشرفية في بيروت، كما لم يوفّر يوماً طرابلس السنّية التي ركّز بشكل مستمرّ على اخضاعها.
كلّما عاد المرء الى الخلف، يكتشف ان النظام السوري لم يفاوض يوما من اجل تحقيق هدف معيّن. يفاوض من اجل كسب الوقت فقط. لم يرغب يوما في استعادة الجولان. لذلك كانت مفاوضاته من اجل تكريس حال اللاحرب واللاسلم مع اسرائيل، وهي حال تصبّ في مصلحة النظام وفي مصلحة اسرائيل في الوقت ذاته.
في المرّتين اللتين استسلم فيهما النظام السوري، لم يحصل ايّ تفاوض معه. في مطلع العام 1999، طرد الزعيم الكردي التركي عبدالله اوجلان من اراضيه عندما هدّدت انقرة دمشق بدخول الجيش التركي من حلب وخروجه من الجولان. قبل ذلك كان النظام السوري ينكر ان يكون اوجلان في دمشق او في الاراضي اللبنانية الواقعة كلّها، وقتذاك، تحت السيطرة السورية. لم تنفع مع النظام كلّ الادلة التي قدمها الجانب التركي، طوال العام 1998، بما في ذلك عنوان الشقة التي يقيم فيها عبدالله اوجلان في العاصمة السورية وارقام هواتفه واسماء الاشخاص الذين تحدّث اليهم او اتصلوا به!
في المرّة الثانية، سحب النظام السوري جيشه من لبنان بعدما نزل المواطنون الى الشارع احتجاجا على مشاركته او تغطيته جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط ـ فبراير 2005. لم يكن من شكّ لدى المواطن العادي في لبنان ان النظام السوري وراء الجريمة. بدأت تظهر الوقائع بالنسبة الى هويّة الطرف المنفّذ لاحقاً. لم يتفاوض اللبنانيون مع النظام السوري. كانوا صوتاً واحداً يطالبونه بالانسحاب. لم يكن لدى بشّار الاسد من خيار آخر غير الرحيل بعدما حاول تغطية الجريمة بسلسلة من التفجيرات في مناطق مسيحية بهدف اثارة النعرة الطائفية، على غرار ما كان يحصل منذ منتصف سبعينات القرن الماضي.
من هذا المنطلق، واستنادا الى تجارب الماضي القريب، ليس واردا تحقيق شيء في جنيف. تحوّل مبعوث الامين العام للامم المتحدة ستافان دي ميستورا الى مجرّد مدير للازمة. لا يعود عجز دي ميستورا الى انّه لا يعرف شيئا عن سوريا والسوريين والنظام السوري فحسب، بل تكمن مشكلته الكبرى ايضا في انّ روسيا وايران لا تريدان حلّا في سوريا. انّهما تعرفان ان النظام السوري يرفض الاعتراف بانه انتهى منذ فترة طويلة، لكنّه على استعداد لتوفير الغطاء لعملية ابادة الشعب السوري وتهجيره من ارضه.
لا حرب روسية او ايرانية على “داعش”. هناك حرب على الشعب السوري والمعارضة المعتدلة بغطاء اميركي. وهناك محاولة لتحسين مواقع النظام كي تقبل المعارضة بتشكيل حكومة وحدة وطنية او شيء من هذا القبيل من دون اخذ في الاعتبار لابسط الحقائق على الارض. ابسط الحقائق ان الاكثرية الساحقة من الشعب السوري ترفض النظام، تماما مثل اهل حماة الذين لم ييأسوا من انّ العدالة ستتحقّق يوما وان لا بدّ من ان تتحقّق مهما طال الزمن واستمرّ الظلم.
انعقد جنيف ـ 3 الذي يمكن تسميته لقاء او اجتماعا او مفاوضات غير مباشرة. لن تتحقّق اي نتائج. تكمن الايجابية الوحيدة في ان المعارضة لم تقاطع. على العكس من ذلك كرّرت مطلبها القاضي بتنظيم عملية رحيل النظام. الاكيد ان الاستسلام الاميركي للروسي لن يساعد في تحقيق اي تقدم، ولكن هل يمكن للوضع القائم الاستمرار الى ما لا نهاية؟
ثمّة حلقة ناقصة في جنيف. تتمثّل هذه الحلقة في غياب الرغبة الاميركية ـ الروسية في انهاء الازمة السورية. كل ما يمكن قوله عن لقاء جنيف المقرّر له ان يستمرّ ستة اشهر انّه يستهدف الانتهاء من سوريا لا اكثر. كيف ذلك؟
يعتبر دي ميستورا اصلاً رجل علاقات عامة لا علاقة له بالسياسية والشرق الاوسط وتعقيداته. يستطيع استخدام خبراته في هذا الحقل من اجل ادارة ازمة لا افق لها سوى الوصول الى تفتيت للبلد، اكثر مما هو مفتّت. الضمانة الوحيدة لبلوغ المطلوب من جنيف ـ 3 متابعة الحرب على الشعب السوري كي يشعر النظام انّه قادر على الانتصار على شعبه!
خيرالله خيرالله
نقلا عن صحيفة العرب