رقم هاتف محفور على جدار سجن يقود إلى لقاء مع رجل كان معتقلاً لدى “داعش”؛ حيث أخبرنا عن المعاملة المروعة التي تعرض لها هناك.
* * *
تل الأبيض، سورية- كتب الجهاديون تحذيراً فوق الدرج الذي يهبط إلى سجنهم تحت الأرض: “ممنوع الدخول”.
وفي الأسفل، استقر كرسي مُترب في الظلام خلف مكتب ثقيل. هنا، كان حارس من “داعش” يراقب المكان ذات مرة، لكن السجن أصبح خالياً الآن. والصوت الوحيد الذي يُسمع هنا هو صوت الماء الذي يقطر في مكان ما. والآثار الوحيدة للهول الذي تم إيقاعه بالأسرى الذين مروا من هنا هي الرسائل المخطوطة على الجدران. وهناك رسالة تستقبل الوافدين الجدد فوق المكتب: أتاكم الموت. الله أكبر.
كان السجناء الذين احتُجزوا هنا ذات مرة على مرمى حجر فقط من الأمان، في الطابق السفلي من مبنى إداري قديم في بلدة تل الأبيض بالقرب من المعبر الحدودي إلى تركيا. وقد استولى مقاتلو “داعش” على تل الأبيض في حزيران (يونيو) 2014، واحتفظوا بها لمدة عام قبل أن تطردهم منها الميليشيات المنافسة. وجعل قرب السجن من الحدود من الصعب على الحكومة السورية استهدافه بالغارات الجوية، فضلاً عن كون المدينة مكاناً طبيعياً لحركة المهربين، واللاجئين، والمقاتلين العابرين. وبينما كان السجناء يواجهون أكثر انتهاكات خلافة “داعش” المتطرفة حلكة، فإنهم كانوا على بُعد صرخة من حرس الحدود التركية، والحياة في الدولة الديمقراطية والحليفة في الناتو.
تم تخصيص الغرفة الأكبر مساحة في قبو المبنى لأولئك الذين صدر عليهم حكم بقطع الرأس. وكانت المصاحف مكدسة فوق “رادييتور” للتدفئة –حيث قيل للسجناء أن يقرأوها بينما ينتظرون مصيرهم. وكانت هناك تعليمات أخرى مخطوطة خارج الباب: لا تقترب.
تم الاحتفاظ بالسجناء في غرف صغيرة أسفل القاعة. وكتبوا بالخدش أو بأقلام الرصاص عبارات غامضة على الجدران الإسمنتية. وتقول إحداها: اطلبوا الرحمة من الله. وتقول أخرى: إن الله رحيم أيضاً.
البعض كتبوا أسماءهم. والبعض سجلوا إحصائيات لمدة بقائهم هناك -إحداها توقفت عند 46 يوماً. وآخرون تركوا أرقام هواتفهم. وظهرت أرقام الهواتف على جدار وراء آخر.
الآن، أصبحت معظم خطوط هذه الهواتف مقطوعة. لكن رجلاً ناعم الصوت ردَّ في ليلة أخيرة على أحدها. وسأل: “كيف حصلت على رقمي؟”.
قال الرجل، 26 عاماً، إنه كان قد جُلب إلى السجن مع والده في الربيع الماضي. كانا يعملان معاً كبائعي خضار في تل الأبيض قبل الحرب، لكنهما تحولا، في حالتهما اليائسة، إلى مهربي سجائر. وقبض عليهما مقاتلو “داعش” ووضعوهما في إحدى الغرف الإسمنتية. وبقيت تلك التجربة حية في ذهنه. ويقول: “لا أستطيع أن أنساها أبداً”.
وافق الرجل على اللقاء في جنوب تركيا، حيث يعيش اليوم كلاجئ. وهناك، احتسى شايه بقلق. وتذكَّر تفكيره بأنه سيموت في السجن عندما أضاف رقم هاتفه إلى الأرقام الكثيرة الموجودة قبله على الجدران. قال له سجين آخر حينذاك: “إذا قتلوك، ربما يستطيع أحد أن يخبر عائلتك بأنك كنتَ هنا”.
ارتعشت يداه وهو يتحدث. ومع أنه هرب من السجن وأن “داعش” ذهب من تل الأبيض، فإنه ظل مسكوناً بالقلق من احتمال أن الجهاديين ما يزالون يراقبونه وظل خائفاً من الحديث عنهم. وضغط يديه على وجهه عندما عادت إليه ذكريات السجن.
كان كل يوم في السجن يبدأ بإيقاظ الجهاديين للدزينة من الرجال أو نحو ذلك في غرفته الصغيرة. وكثيراً ما كانوا يضربون السجناء، ثم يجعلونهم يصلون. وكانوا يعطون للسجناء دورات في نسخة “داعش” المتعصبة من الإسلام. وكان السجناء يُطعمون مرة واحدة في اليوم فقط، بوجبة صغيرة في المساءات. وكانوا يعرفون أن هناك رجالاً آخرين في الغرف الأخرى ممن يعانون القدر نفسه. وقال الرجل: “عندما كنا نُضرب، كانوا يسمعوننا، وعندما كانوا يُضربون كنا نسمعهم”.
كان السجناء يفكرون بالحياة الحرة عبر الحدود في تركيا. “كانت الحرية قريبة منا”، كما قال السجين السابق.
كان نزلاء السجن يتكونون من مقاتلي الثوار، ومن المهربين الهواة اليائسين الذين يحاولون إطعام عائلاتهم، ورجال ممن انتهكوا قوانين “داعش” الصارمة. وكان كل منهم يقلق على الآخرين في الغرفة ذات المصاحف. ويقول الرجل: “كل يوم كانوا يوقظونني، وكنت أفكر أنه ربما يكون يومي الأخير”.
بعد ذلك، رد على الاتصال ثلاثة رجال آخرين ممن كانت أرقام هواتفهم مخطوطة على الجدران أيضاً. وكان أحدهم مسجوناً عند المسلحين الأكراد الذين طردوا “داعش” من تل الأبيض في حزيران (يونيو)، والمعروفين باسم “وحدات حماية الشعب”. وقد حرر هؤلاء سجناء “داعش” من القبو، لكنهم ملأوه بعد ذلك لبعض الوقت بسجنائهم الخاصين، قبل نقلهم إلى السجن الرئيسي في البلدة. وبعد أن وصلنا إليه بواسطة الهاتف في تل الأبيض، قال الرجل الذي طلب هو أيضاً مثل الآخرين عدم ذكر اسمه من أجل سلامته، إنه قضى بضعة أسابيع في ذلك القبو هذا الخريف. وقد ضربه سجانوه من وحدات حماية الشعب الكردية أيضاً، كما قال، لكنه كان يعرف أن الأمر يمكن أن يكون أسوأ: “كنت أصلي كل يوم حتى لا يستعيد داعش السجن قبل أن أغادره”.
وثمة رجل آخر في الثلاثينيات من العمر، ممتلئ الجسم وحليق الذقن، والذي وصف نفسه بأنه عضو موالٍ لداعش، وقال إن الجهاديين حبسوه في القبو “لأنني كنت شخصاً سيئاً”. ورفض كشف المزيد خلال المحادثة القصيرة في البلدة الكردية على الجهة الأخرى من البوابة الحدودية لتل الأبيض، وقال إنه يحاول العودة إلى مناطق “داعش”: “أنا أنتظر الفرصة لأنضم إليهم مرة أخرى”.
مع ذلك، كان سجين آخر في الثالثة والثلاثين من العمر ومزارع سابق، قد سُجن عند “داعش” عندما ضبطوه وهو يبيع السجائر سراً لكي يطعم عائلته خلال الحرب. وقال: “ظننت أنهم سيقتلونني”. وتذكر الرعب الذي شعر به في كل مرة ظهر فيها حارس مقنّع ليستدعي سجيناً من الزنزانة. لم يعد منهم أحد، ولَم تُسمع كلمة واحدة عن مصائرهم. كان واثقاً أن معظمهم قُتلوا. وقال: “كنا نبكي ونصلي كل الوقت”.
بينما ينهي كوب شايه في تركيا، تذكر بائع الخضار السابق أن شهراً كان قد مر على وجوده في السجن عندما نودي على والده، مما تركه نهباً للقلق في الزنزانة، ويأمل عبثاً في أن يعود والده.
بعد أيام عدة لاحقاً، سحبه جهادي إلى الخارج أيضاً. وقال الجهادي إنه طُلِب من والده العمل مع “داعش” ورفض، فاقتيد إلى الغرفة التي يخشاها السجناء، وأُعطي مصحفاً ليقرأه، ثم قُتل.
بسبب الرعب، تعهد الابن بالولاء للمتشددين، ووعد بالتوقف عن التدخين، وأُطلِق سراحه. وبعد ذلك بوقت قصير فرَّ إلى تركيا؛ حيث يقوم الآن بأعمال صغيرة ليقيم أود نفسه كلاجئ، وما يزال مسكوناً بهاجس السجن ومصير والده. ويقول: “أشعر بالذنب، لأنهم قتلوا أبي وأطلقوا سراحي أنا”.
مايك غيغليو؛ ومنذر العواد* – (بَز فيد نيوز) 28/1/2016
*مايك غيغليو: مراسل “بز فيد نيوز” المقيم في إسطنبول. كتب تقاريره عن الحروب في سورية وأوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط. ومنذر العواد: صحفي مسهم في “بز نيوز فيد”، يقيم في إسطنبول.
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان:
Life And Death Inside An Isis Prison
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
نقلا عن صحيفة الغد الاردنية