في الوقت الذي يتمّ إنتاج سورية مجدداً على مقاسات التفاهمات الأميركية – الروسية، لا تزال السجالات والمقالات على حالها كأننا في بداية الأزمة. فرضية المؤامرة حاضرة، والقول بحتمية انتصار النظام قائم، والقول بحتمية انتصار «الثورة» قائم أيضاً، والمفاضلة بين النظام الدموي و «داعش» تستحوذ على «عقول» كثر من الكَتَبة ونشطاء أيديولوجيين هنا وهناك. كل شيء حاضر كما كان إلا مقاربات محدّثة تستمدّ نسغها من الواقع كما هو من دون أهواء أو محاباة. وهي إذا وجدت فخجولة، أو لا تحظى باهتمام باعتبارها غير مقبولة لا من أنصار النظام الدموي ولا ممَّن أراد للثورة الشعبية أن تنتصر وبسرعة على نظام أمني ورئيس طاغية.
على رغم دخول «داعش» على الخط، ودخول أكثر من قوة دولية وإقليمية على خط المعارك الميدانية والمناورات الديبلوماسية والإعلامية، لا يسعنا إلا أن نرى في ما يحصل صراعاً بين شعب أراد للقيد أن ينكسر ونظام أقلوي حكم البلاد بالحديد والنار والشبيحة. ولا يسعنا إلا أن نظلّ منحازين الى هذا الشعب، أعجبتنا أساليب نضاله أو لم تعجبنا. راق لنا المتدخلون لمصلحته أم لا. نقول هذا ولم تكن خافية عنّا حقيقة أن شبكة المصالح المتقاطعة لقوى دولية وإقليمية في سورية تفعل فعلها في الأزمة لجهة استثمارها أو إطالة أمدها أو رعاية طرف من أطرافها. هذا كله لم يحرفنا قيد أنملة عن رؤية التاريخ السوري والتجربة السورية الممتدة إلى عقود مضت كمدخل للحرب وشروط أوجبتها.
أما الآن وقد دخل الحلبة في شكل أقوى لاعبان أساسيان، فلا بُدّ من قراءة المتغيرات التي نجمت عن تدخلّهما. من الواضح وفق وقائع القتال ميدانياً، أن التدخل الروسي بخاصة والأميركي في ظلّه لا يستهدف محاربة «داعش»، الذي شكّل ورقة لعب بأيدي النظام الدموي وأطراف أخرى، ولا نُصرة النظام، بقدر ما هو تدخّل لحفظ مصالح روسية أو غربية من خلال تفاهمات مع إسرائيل أو غيرها من أطراف إقليمية. نشير إلى التقسيم، في ضوء تلك التغييرات الديموغرافية، الذي تفرضه أطراف القتال في المناطق التي تسيطر عليها أو في تلك التي تعتبرها حيوية لكيانها المتخيّل بعد الحرب و/ أو ضمن رسم مصالح الأطراف المعنية على الأرض السورية. وهكذا أرى إلى المفاوضات التي بدأت برعاية أممية في جنيف بين النظام وبين المعارضة على تياراتها، وهي مفاوضات لم تكن لتبدأ (قبل توقفها) لولا تفاهمات بين روسيا والولايات المتحدة والأوروبيين حول خارطة طريق في سورية تشكّل تخريجاً ما لتقاطع المصالح على الأرض السورية من خلال الأطراف السورية نفسها. فما رأيناه خلال سنوات الحرب نراه يحصل في مسار التفاوض، أيضاً. فلا الحرب ظلّت محصورة بين النظام الدموي والمعارضة السورية، ولا المفاوضات الآن هي بين هذا النظام ومعارضيه. بل هي في شقّ كبير منها مفاوضات بين القوى الإقليمية المعنية بالشأن السوري وتلك القوى التي تريد مصلحة أو حفاظاً على مصلحة في سورية.
قد تتمخض المفاوضات بعد أخذ وردّ عن صيغة ما أو خارطة طريق لسورية، لكنني أستبعد، مع استئنافها، أن تتوقف الأعمال القتالية مع ولادة تفاهمات ما. فهناك مَن سيكون معنياً في شكل ملحّ بإعادة بعض الحقوق الى أصحابها داخل الأراضي السورية: عودة مهجّرين مثلاً إلى ديارهم، وعودة نازحين إلى مناطقهم وتعويض مجتمعات سورية نُكبت في سنوات القمع. هذا في أقلّ تقدير، لأن الأطراف كلّها بخاصة التي عانت من نار جهنم النظام ودفعت أثماناً لا تُحتمل، ستظلّ عينها على فكرة تعويض نفسها ومجتمعاتها.
هذا كله يحدث في ظل ما نعتبره انحسار مفهوم السيادة الوطنية في ما يتعلّق بالدولة السورية (وغير السورية أيضاً) التي رهنها النظام لمصالح إيران أولاً، والآن لمصالح روسيا وكل جهة مستفيدة من الوضع بما فيها إسرائيل، بل بالنسبة الى كل القوى داخل الوطن بما فيها المعارضة الظنية نفسها. فقد جعل النظام الدموي السيادة الوطنية على مقاساته وربطها ببقائه، أو زواله، فأضاف من لدنه تقويضاً لهذه السيادة على ما أحدثته العولمة من انتقاص سابق لها.
إن التسريبات العديدة السابقة واللاحقة عن فحوى المفاوضات أو عن تفاهمات مسبقة روسية – أميركية أو تركية – أميركية أو روسية – إسرائيلية أو غيرها، لا تغيّر من حقيقة أن سورية التي كانت، كانت ولن تعود، وأنه مهما يكن مصير المفاوضات فإنها مع إرادات اللاعبين من خارج سورية، ستُفضي إلى سورية التي ستكون. وقد تُفضي إلى أكثر من سورية واحدة. أو قد لا تكون حدودها في الشكل الذي ما زال ظاهراً على الخريطة. وعلينا أن ننتبه الى أننا دخلنا العام المئة على اتفاق «سايكس بيكو»، وأن ما تبلور في ذلك الوقت يبدو لنا الآن وأكثر من أي وقت مضى هشاً وقابلاً للتبلور مجدداً وعلى نحو معدّل!
مرزوق الحلبي
صحيفة الحياة اللندنية