اليوان الصيني؛ بدء العدّ التنازلي

اليوان الصيني؛ بدء العدّ التنازلي

ch_767743_large

أصبحت سيرة “اليوان الذي لا يحظى بالقيمة التي يستحقها” مجرّد ذكرى سيئة من الماضي؛ حيث أن اليوان يحظى اليوم – في ظل الخفض التنافسي لقيم العملات العالمية- بأكثر من القيمة الفعلية له قياساً بنظيراته من العملات الرئيسية الأخرى، وأهمها الدولار واليورو.

ومن الطبيعي أن تكون الصين بحاجة إلى عملة مستقرّة كي تنجح في تحوّلها الاقتصادي المنشود، لذلك دأبت الحكومة على التدخّل في أسواق العملات بشكل متكرر على مدى الأشهر القليلة الماضية؛ إذ قامت على مدى العام الماضي بسحب 513 مليار دولار من احتياطات العملات الأجنبية دون تشكيل أي ضغوط سوقية هابطة على اليوان الذي تراجع بنسبة 5% أمام الدولار خلال تلك الفترة، وهو ما يشكّل انخفاضاً هامّاً في قيمة هذه العملة التي كانت في السابق تتأرجح ما بين أسواق أضيق من سوقها. وعند المقارنة مع اليورو، سنرى بأن الأخير- الذي يتسم بتقلباته الحرّة في السوق- قد خسر نحو 6% من قيمته أمام الدولار الأمريكي العام الماضي.

افتراض تراجع القيمة قبل هذا الصيف، والذي يزداد احتماله أكثر فأكثر
هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار اليوان الصيني خلال 2016:
– استمرار خفض القيمة تحت إدارة بنك الصين الشعبي (PBoC)
– مواصلة الدفاع عن اليوان في الأسواق
– إبرام اتفاقيّة جديدة على غرار “اتفاقيّة نيوبلازا” التاريخية

يمثّل استمرار خفض القيمة تحت إدارة بنك الصين الشعبي (PBoC) السيناريو الأكثر ترجيحاً لهذا العام، ولن يكون له أي تأثير على عملية “تدويل” اليوان، بل على العكس، سيعزّز إمكانية تمتّع اليوان بسعر صرف أكثر انسجاماً مع الاقتصاد الصيني. وكانت الخطوات المتتالية لخفض قيمة اليوان خلال شهر أغسطس الماضي (1.9% في 11 أغسطس، و1.6% في 12 أغسطس، و1.1% في 13 أغسطس) قد أرسلت إشارة هامّة إلى السوق التي لن تتفاجأ كثيراً إن قررّت الصين إعادة الكرّة. ولضمان نجاح هذه المساعي ينبغي على بنك الصين الشعبي فتح قنوات تواصل مع السوق عبر اعتماد المنهجيات التي تستخدمها البنوك المركزية في الدول المتقدّمة، حيث تمرّ البلاد بمرحلة تعرّف على النظام الرأسمالي، ولن يكون هذا التحوّل خالياً من المشاكل، ولكّن هذه المرحلة تعتبر بلا شك خطوة هامّة للغاية كي يكتسب المستثمرون فهماً أفضل للسياسة النقدية التي تنتهجها الصين وأفضل أسعار الصرف الممكنة للعملة الصينية.

وقد تتيح قمّة العشرين الكبار (G20) – المزمع عقدها في شانغهاي يومي 26 و27 فبراير الجاري- إمكانية لاتخاذ خطوّة هامّة في خفض قيمة اليوان، وستكون أسعار العملات بالتأكيد من أهم محاور النقاشات في هذا اللقاء الذي قد يجسّد فرصة نموذجية لتزويد الصين بالخبرات المطلوبة، مع إطلاق العنان لها في عملية خفض القيمة، على غرار ما شهدته اليابان سابقاً. وتجدر الإشارة إلى أن هذا السيناريو ينطوي على نقطة ضعف على المدى القصير تتمثّل في ازدياد الاضطرابات النقدية، ولكّن تأثير ذلك على السوق سيبقى محدوداً وبعيداً كل البعد عن “الصدمة” القوية التي سببّها البنك الوطني السويسري بتخلّيه عن سقف سعر الفرنك السويسري أمام اليورو قبل عامٍ من الآن تماماً.

وإذا لم يتم خفض قيمة اليوان، فسيجد بنك الصين الشعبي نفسه مضطراً لمواصلة الدفاع عن عملته في الأسواق، وهو سيناريو يعتبر سلبياً؛ إذ أن التدخلّات في أسواق العملات الأجنبية تغدو باهظة التكلفة أكثر فأكثر لدرجات غير محتملة نظراً لعدم فعاليتها في تحقيق استقرار اليوان، فالصين لا تستطيع التغلّب على السوق. وإذا ما واصلت البلاد مسارها الحالي، فقد تصل احتياطات العملة الحالية (التي تقارب 100 مليار دولار شهرياً) إلى عتبة دنيا تبلغ 2,800 مليار دولار كما أوصى صندوق النقد الدولي أواخر يونيو الماضي. ولن تستطيع الصين تكبّد الخسائر التي قد تنجم عن السماح لعملتها بالهبوط دون هذا المستوى الذي يمدّ بنك الصين الشعبي بالمرونة الحقيقية للتدخل في حال حدوث أي أزمات خارجية. وإن وقع أمر كهذا بالفعل، فسيتحتّم على الصين عاجلاً أم آجلاً الاستسلام وإفساح المجال لقوى السوق كي تقرّر سعر صرف اليوان، مع لحاق أضرار دائمة بسمعة بنك الشعب الصيني. ومن هذا المنطلق، فإن الصين مدركة لحقيقة أن لا مجال لحدوث سيناريو كهذا، وهو ما يعزّز بالمقابل احتمال سيناريو مواصلة خفض سعر اليوان خلال الفترة التي تسبق الصيف القادم.

أما السيناريو الثالث، أي سيناريو إبرام اتفاق جديد على غرار “اتفاق نيوبلازا” التاريخي، فهو حلم للاقتصاديين، بيد أنّه الأقل ترجيحاً على المدى المتوسط نظراً لتدني مستوى التنسيق النقدي بين الدول النامية والمتقدّمة؛ حيث أن اتفاقاً كهذا يمكن توقيعه خلال قمّة العشرين الكبار فقط في حال افترضنا أن التقلّبات في أسعار الصرف مرتفعة للغاية، وأن المساعي التنافسية التي يتم بذلها لخفض قيم العملات (دون الاتفاق بشأنها على صعيد دولي) قد يكون لها تأثيرات ركودية على الأنشطة الاقتصادية. وسيكون الهدف من هكذا اتفاقيّات هو مواجهة أهم المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد العالمي، بما يشمل ارتفاع سوية التقلّبات في أسعار صرف العملات، والتقييم الزائد لليوان، وقوّة الدولار الأمريكي التي تعزّز مخاطرة الركود نظراً لانفجار مديونيات أطراف السوق التي تتعامل بالدولار الامريكي منذ عام 2008. وعلى غرار ما شهده عام 1985، ستقبل الدول الموقعّة على الاتفاقية بالتدخل في أسواق العملات بهدف تقليص السعر السوقي للدولار واليوان، مع احتمال إبرام اتفاقيات مبادلة بين بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنوك المركزية للدول النامية كما كان الحال في 2008، وبين البنوك المركزية للدول المتقّدمة بهدف تخفيف الضغوط عن الأسواق المالية. ولكّن كي يكون سيناريو كهذا ممكناً، يجب على الدول المعنية الإقرار بتقارب مصالحها وقبول ضرورة تنسيق الجهود، وهو ما يناقض الواقع الحالي.

يرتبط هبوط اليوان ارتباطاً وثيقاً بالتدفقات الرأسمالية الصادرة، ومن الصعب قياس مدى هذا الارتباط بشكل دقيق نظراً للضبابية التي تكتنف منهجيات إجراء الإحصائيات الصينية. وبحسب الحدود الدنيا لتقديراتنا، بإمكاننا أن نستنج أن نحو 650 مليار دولار من رأس المال قد تدفقّت خارجة من الاقتصاد الصيني منذ 2010، وذلك بناءً على التغيّر في “صافي الأخطاء والهفوات” ضمن الميزانية التجارية. وفي الحقيقة، إن المبلغ الإجمالي الفعلي أعلى من هذا بكثير دون شكّ، غير أن هذا التقدير يؤكد أن الواقع مناقضٌ لما يُصرّح به، فالصين تحوّلت من مستورد صرفٍ لرأس المال إلى مصدّر صرفٍ له، ولم تنجح في تمتين أسس اقتصادها بالشكل الكافي على الرغم من خطّة الانتعاش البالغة قيمتها 4,000 مليار يوان، والتي تم طرحها مع نهاية 2008. وبغض النظر عن السيناريو الذي يفضلّه بنك الصين الشعبي بين هذه الاحتمالات الثلاثة، فإنّ البنك سيحظر تدفّق رأس المال خارجاً عندما يتعلّق الأمر بتحقيق استقرار سعر صرف اليوان.

وننوّه إلى أن فرض ضوابط رأس المال المشار إليها لن يكون فكرةً جيّدة، لأنه قد يبعث برسالة سلبية إلى المستثمرين الأجانب في أسوأ وقت ممكن. يضاف إلى ذلك أن الخبرة المكتسبة سابقاً تشير بأن هذه الإجراءات تنطوي دوماً على فجوات في نقل رأس المال خارج البلاد بشكل غير مباشر، مثل هونج كونج في حالة الصين. ومن أجل ضمان الفعالية الحقيقية، يجب تطبيق ضوابط صارمة يكون من شأنها تجميد حركة الاقتصاد بالكامل، وهو أمر لا مبرّر له على الإطلاق في حالتنا هذه. وعلى مدى الأعوام القليلة القادمة لن يكون أمام الصين أي خيار سوى تقديم ضمانات تكفل حرية الجهات الأجنبية في سوق رأس المال المحلية، مع تعزيز اللوائح التنظيمية المالية التي لا تزال بعيدةً للغاية عن المستوى المطلوب.

وليس من المستبعد أن تنطوي هذه العملية طويلة الأمد على تصحيحات جديدة مؤثرّة في سوق الأسهم الصينية، أو حتّى حالات إفلاس قد تفضي إلى تقليص الخطر الافتراضي، ولكن ممّا لا شك فيه أن ضمان سعر صرف ثابت لليوان الصيني بعد خفض قيمته سيسهم في تعزيز راحة بال لاعبي السوق. وباختصار هذه هي الطريقة الأبسط والأسرع للمضي قدماً، فالصين لا تمتلك أي رافعات موثوقة وفعّالة أخرى لاستعادة توازن اقتصادها على المدى القصير.

*كريستوفر ديمبيك، ، خبير اقتصادي لدى ’ساكسو بنك‘

نقلا عن  العربية نت