تذهب الترجيحات بالنسبة إلى الحزب الديمقراطي إلى أن هيلاري كلينتون هي التي ستكون “فارسة” حزبها في إطار المنافسة النهائية المقبلة مع المرشح الجمهوري. ومما يقوّي فرص وصولها إلى الاستحقاق “الفاينال” داخل حزبها، واستطراداً على مستوى المنازلة الكبرى نحو البيت الأبيض، ليست سياسات حزبها التي لا تفترق بالأمر الكبير عن سياسات الحزب الجمهوري، وإنما لأنها امرأة فقط، أي أنه، في حال نجاحها، ستكون مثلاً، أول امرأة في تاريخ الولايات المتحدة تصل إلى سدة الرئاسة، وهذه رمزية كبيرة تحتشد لها الأغلبية الساحقة من جماعات “نون النسوة” في الولايات المتحدة، فضلاً عن نسبة عالية من الناخبين الذكور، المحسوبين على جماعات أنصار المرأة وحقوقها في هذا البلد. ومثل هذه المفاجآت “الفانتازيا المفارقة”، على أية حال، تعوّدها الأميركيون من الديمقراطيين أكثر من خصومهم “الجمهوريين”، فمثلاً كان حظ باراك أوباما الديمقراطي، بالإضافة إلى مؤهلاته الشخصية وثقافته السياسية المتجاوزة بأشواط مؤهلات سلفه الجمهوري جورج بوش الابن وقدراته، كونه أيضاً يحمل رمزية عالية، تتمثل بأنه أول رئيس أسود، يدخل أكناف البيت الأبيض.
في المقابل، يعتبر الجمهوريون أن فرصة وصول مرشحهم إلى البيت الأبيض باتت من قبيل تحصيل الحاصل، وأن كل ما يتطلبه الأمر بالنسبة إليهم الآن هو تنظيم حشود ناخبيهم ليوم النصر العظيم. ومن أكبر الجماعات المنظمة وأقواها لهذا اليوم: الإنجيليون، الحلفاء الطبيعيون للحزب الجمهوري، كونهم من يمثل الأيديولوجيا الفعلية لهذا الحزب، وخصوصاً منذ الثمانينيات، مع وصول مرشحهم رونالد ريغان إلى البيت الأبيض. والسؤال الآن، من سيختار الإنجيليون من بين مرشحيهم التمهيديين المتنافسين على تمثيل الحزب للترشح للرئاسة الأميركية، والتي يبدو أنها انحصرت بين “الفرسان” الثلاثة: دونالد ترامب، تيد كروز وماركو روبيو؟
بوابة ولاية آيوا
إذاً، هذا ما حصل فعلاً، وجرت جولات انتخابية، كان أهمها في ولاية آيوا ذات الأغلبية الساحقة من الناخبين المسيحيين الإنجيليين، والتي انهزم فيها دونالد ترامب الذي كان قد صرح، قبيل الانتخابات، إن “الله اختاره لإنقاذ الأمة من العابثين بها”. ويُقال، في أميركا، إن من يخسر فرصة ترشحه من الجمهوريين في ولاية آيوا، أولاً، يخسرها غالباً في اليوم الأخير؛ ذلك أن سكان هذه الولاية، بحسب الإعلامي الأميركي، جون ديكي، والذين يشكلون 1% من سكان الولايات المتحدة “يقومون بالتصويت أولاً، نتيجة لطفرة في القواعد الحزبية، حيث حازت ولاية آيوا على شرف التصويت أولاً في الانتخابات الحزبية منذ السبعينيات، ما أعطى هذه الولاية الزراعية في وسط أميركا أهمية تزيد عن حجمها، فالمرشحون يقضون أشهرا هنا مع سكان الولاية، لإقناعهم بالتصويت لهم، على أمل الحصول على دفعة في باقي الولايات”. ومن هنا، يتوقع المراقبون هزيمة دونالد ترامب، المرشح الفانتازي، الفضائحي الشتّام، والمملوء بالعنصرية والحقد، ليس ضد العرب والمسلمين الأميركيين فقط، وإنما ضد كل العرب والمسلمين في العالم، ومعهم سائر مؤيديهم من الملونين الأميركيين وغير الأميركيين.
والمؤشرات التي بدأت تتجمّع لدى الخبراء المتابعين لانتخابات الحزب الجمهوري، تفيد بأن المرشح تيد كروز (سيناتور محافظ من ولاية تكساس) هو من سيتصدر قائمة المترشحين الجمهوريين إلى الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، إذ حصل في ولاية آيوا على 28% من الأصوات، مقابل 24% لرجل الأعمال وتاجر العقارات البليونير دونالد ترامب. وأن شعبية كروز تحققت، بحسب وكالات الأنباء، كونه “يسوّق نفسه متمرداً على القيادة التقليدية للحزب الجمهوري، ويريد تغيير نهج واشنطن بحكومة صغيرة وضرائب منخفضة، وبإلغاء قرارات الرئيس باراك أوباما، من قرار إصلاح الضمان الصحي (يسميه الأميركيون مشروع أوباماكير) إلى الاتفاق النووي الإيراني؛ لكنه يستمد قوته الأساسية من الإنجيليين المحافظين الذين يعارضون الإجهاض وزواج المثليين، ويريدون التشديد على قوانين الهجرة”.
ويجد الإنجيليون في تيد كروز المرشح الأنسب لهم، إذ لا يُظهرهم على أنهم يؤيدون مرشحاً جمهورياً رقيعاً وفضائحياً، كدونالد ترامب، يشوّه صورة كنيستهم وأصول دعاواهم المقدسة، ليس داخل الولايات المتحدة فقط، وإنما على مستوى وجودهم الكنسي والتبشيري في القارات كافة، على الرغم من أن الفضائحيات والمواقف العنصرية الفجّة باتت تستقطب جزءاً كبيراً من الناخبين الأميركيين. وتيد كروز، بحسب أحد الناطقين باسم الإنجيليين “سيحمي الدستور وسيحل قرارات الرئيس أوباما التنفيذية، والأهم من هذا كله أنه سيضع الإنجيل والدستور في مقدمة أي قرار سياسي؛ فالإنجيل هو العصب الأساس والروح الوثّابة للنهوض بالوطن والإنسان”.
الإنجيل إذاً هو شعار الجمهوريين المحافظين الدائم في بلد علماني، كالولايات المتحدة، يشكّل فيه البروتستانت 52% في مقابل الكاثوليك الذين يمثلون 27%، ما يعني أن الولايات المتحدة هي البلد الذي يضم العدد الأكبر من المسيحيين في العالم.. حوالى 224 مليون مواطن مسيحي؛ ومع ذلك، يتمسك الدستور الأميركي بالعلمانية، ويحول دون قيام حكم ديني في البلاد، على الرغم من أن هذا الدستور يكفل حرية ممارسة الأديان على اختلافها.
وعلى العموم، ارتدت الحركة الإنجيلية الدينية، منذ ثلث قرن، أهمية لا جدال فيها، من حيث الحضور والتأثير الجيو/ سياسي. لكن، كلما تطورت، تبدو أنها تسلك طرقاً غير متوقعة؛ فوجهها لم يعد يتزاوج بالضرورة مع الأنماط التي ارتبطت بها. وغالباً ما شُبهت بالأيديولوجية المحافظة المتشددة، بحيث قد نندهش، أيضاً، من رؤيتها تتناوب أكثر فأكثر مع نشوء وعي بيئي كوني، تحت مسمى “الواجب الإلهي” في “احترام الخلق”. لكن هذا التطور لم يفاجئ حقيقة إلا المثقفين وعلماء البشرية الذين طالما نظروا إلى الظاهرة الإنجيلية بوصفها تقليداً قديماً، لكنها ليست كذلك بالنسبة إلى الشعوب المتعلقة بها: تبني رؤية خيالية تتكيف مع العولمة، مطواعة للغاية، والتي قد تتنوع ثمارها السياسية كثيراً.
ردة ضد الليبرالية اللاهوتية
وحتى الآن، لا يزال عدم الوضوح هو الذي يطغى على مصطلح “الإنجيلي” الذي يشمل، في جزءٍ منه، ثلاث فئات مختلفة: البروتستانت المتحدّرين من ثورة الإصلاح في القرن السادس عشر، والذي يمكن أن نضيف إليهم، حسب المفهوم السائد، الإنغليكانيين (أو ما يعادلهم في الولايات المتحدة الأسقفيين)؛ وجماعة “عيد العنصرة” الذين يشكّلون الموجة الجديدة في البروتستانتية التي يعود تاريخها إلى بداية القرن العشرين، حيث تعتبر داخل البروتستانتية ردة فعل عقائدية ضد الليبرالية اللاهوتية التي تدعو، منذ القرن العشرين، إلى تبنّي الإيمان بالدنيوية السائدة. ولذلك، نراها تحتشد لمرشح للحزب الجمهوري الذي يتخذ من إنجيلية إيديولوجيته التي على أساسها ينتخبه الإنجيليون في الولايات المتحدة، وبات تعدادهم يتجاوز الـ80 مليوناً.
ويرى الباحث الفرنسي، أندريه كورتن، وهو مختص بالعلوم السياسة وأطروحات التديّن السياسي، أنه ابتداء من الثمانينيات من القرن الفائت، كانت الحركة الإنجيلية، المعروفة بقدمها، قد شهدت توسعاً لا مثيل له، وأن هذا التوسع جري في أميركا اللاتينية وإفريقيا، بشكل مستقل عن الكنائس في أميركا الشمالية التي كانت مهد هذا التيار. مع ذلك، فإن تطور السياسة الداخلية للولايات المتحدة هو الذي يلفت الانتباه إلى الصعود القوي لهذه الحركة. ففي 1980 فاز رونالد ريغان في انتخابات الرئاسة الأميركية، بدعم من “الأغلبية المعنوية”، أي التحالف المسيحي المحافظ الذي يقوده الراعي، جيري فالويل، وهو إنجيلي معمداني. في 1989، تحولت هذه “الأغلبية المعنوية” إلى تحالف مسيحي، يدعمه إنجيلي آخر، هو بيت روبرتسون، مرشح لم يحالفه الحظ في الانتخابات الجمهورية الأولية لعام 1988. وهو الذي أعطى للتيار الإنجيلي سمته المحافظة المتشددة، مهيّئاً بذلك، أيديولوجياً، لانتصار جورج دبليو بوش. وهكذا، فإن بيت روبرتسون يعلن “أن الحركة النسائية تشجع النساء على ترك أزواجهن، وقتل أولادهن، وممارسة السحر وتدمير الرأسمالية، وتحولهن إلى سحاقيات”. وفي السياسة الدولية، الخطاب لا يختلف أبداً؛ ألم يدع بيت روبرتسون في العام 2005 إلى قتل الرئيس الفنزويلي (الراحل) هوغو تشافيز؟
أكثر من ثلثي الـ 70 مليون إنجيلي أميركي قد اقترعوا لمصلحة جورج بوش في العام 2004. لكن، لم يتكرر الأمر في العام 2008، طالما المعطيات تتطور؛ فالتحالف المسمى “المبادرة المناخية الإنجيلية” حصل بين علماء النازا وأعلى المحافل الإنجيلية المنهمكة بإنقاذ “الخلق”. من ناحية أخرى، أصبحت حرب العراق التي أعلنت أنها “عادلة”، والمدعومة من “التوافق المعمداني الجنوبي” القوي جداً ومن 78 % من الإنجيليين، تتعرّض أكثر فأكثر للشجب من بعض التحالفات الكنسية، مثل “التحالف المعمداني الجديد”، وقد حكم عليها أحد الزعماء الإنجيليين سياسياً بأنها “غير شرعية، غير محقة وغير أخلاقية”، وتتناقض دينياً مع الكتابات التوراتية.
خلافاً للرأي السائد، فإن قوة التيار الإنجيلي الأميركي من الآن باتت ترجع إلى حيويته الدينية، حيث أن إنجيلياً واحداً من بين ثلاثة يرتاد مكان العبادة يوم الأحد. ويعمل الإنجيليون الأميركيون على نشر مبدأ مفاده بأن الحرية هي هدية من الله، وعليهم نشرها في أرجاء العالم.
نصف مليار إنجيلي مؤمن
من ناحية أخرى، نلاحظ، وبقوة اليوم، انتشار هذه النزعة في كندا. وما يشهد على ذلك وصول المحافظ ستيفن هاربر إلى الحكومة في العام 2006، وهو إنجيلي مؤمن، ومدعوم بشكل نشط من ثلاثة ملايين ونصف المليون من المؤمنين، وقد نوّع كثيراً في خطابه الديني؛ وناخبوه هم في الحقيقة أكثر التصاقاً بـ”القيم الأميركية” من تعلقهم بانتشار العقيدة.
وفي الأنحاء الأخرى من العالم، يرتدي التغير طبيعة مختلفة تماماً. فالتيار الإنجيلي يقود فيها، أولاً، إلى تحوّل حقيقي نحو الديني. وفي الجنوب، وفي أوساط المهاجرين، حملت جماعة “عيد العنصرة” راية الموجة البروتستنتية. ومنذ بداية القرن العشرين، دين الانفعال هذا، ظهرت ولادته تحديداً في كنائس الأميركيتين السود، وانتشر في العالم، في إفريقيا الجنوبية والبرازيل وتشيلي والأرجنتين والأوروغواي والباراغواي…إلخ. واتخذ مباشرة هياكل مستقلة. وتأسست “جمعية الله” في البرازيل، قبل أن توجد في الولايات المتحدة. وتأخذ هذه الحركة اسمها من اعتقادها أن هبّات الروح القدس، تلك التي يرمز إليها بالشعلة الموضوعية على رأس تلاميذ المسيح يوم عيد العنصرة، وتظهر تحديداً “بالتحدث بلغات عدة” (على شاكلة الرسل الذين عبّروا آنذاك بأشكال عدة أمام مجموعة من الناس في مناطق متعددة) أو ترمز إلى الشفاء، وهي أمور قائمة دائماً. وكما يقول هارفي كوكس، أستاذ اللاهوت في جامعة هارفرد، إن الاعتقاد بعيد العنصرة هو “فلسفة التجريبية” أكثر مما هو أصولية؛ ويستخدمه المؤمنون لإعطاء معنىً لأناسٍ يعيشون حياة مضطربة بشكل عميق من العولمة.
بعد انتشارها في إفريقيا وأميركا اللاتينية، تنتشر المسيحية الإنجيلية اليوم، وبشكل متزايد في الهند والصين وكوريا الجنوبية وميانمار وتايلاند ولاوس، حيث تطاول فئات متوسطة قوية بصعودها، حتى أنها شكلت، ومنذ أقل من عقدين، حيوية فاعلة، ومن الدرجة الأولى، على المستوى السياسي، حيث وصل بعض الإنجيليين، مثلاً، إلى أعلى مراتب في السلطة: من الرئيس السابق للجماعة العسكرية في غواتيمالا،لاريوس مونث، إلى نائب الرئيس السابق في البرازيل، جوزيه ألانكار، ومن السيدة الأولى في ساحل العاج، سيمون كباكبو، إلى رئيس جمهورية بنين السابق، ماثيو كيريكو. هذا التوسّع جعل من الإنجيليين والحركات المسيحية المتجانسة الأخرى معها قوة ديمغرافية، لا يستهان بها. فلقد تجاوز عدد أتباعها نصف المليار شخص اليوم؛ ويتوقع الرئيس السابق للقساوسة الإنجيليين، س. س. كريب، أن يصل “وببركة من الله عدد أتباع كنيستنا الربانيّة إلى مليار مؤمن ناشط في قارات العالم الخمس، مع إطلالة العام 2035”.
هكذا، ومن خلال امتداد الإنجيليين، عبر قارات العالم، تأتي حماستهم للسيطرة من جديد على البيت الأبيض، فهذه تفضي إلى تلك.. وبالعكس تماماً. فالرئاسة القوية للولايات المتحدة، والتي يمثلها رئيس من صفوف الحزب الجمهوري، كما يقول الإنجيليون المحافظون، هي الكفيلة بجعل واشنطن القوة الوحيدة في العالم المهابة الجانب باستمرار.
إننا، إذن، أمام ظاهرة توسع كنسي إنجيلي هائل ومستدام في العالم، جوهره سياسي بالطبع، وأهدافه أيضاً. ولأجل ذلك، نجد سياق هذا “التديّن السياسي” يفرض نفسه، وبقوة، على أقوى دولة في العالم، تظل تجهر بدستورها العلماني المدني، ليل نهار.