تركز أغلب الكتابات المعنية بتحليل ظواهر النظام الدولي وعلاقاته البينية على الأبعاد السياسية والعسكرية، وهو الأمر الذي يعطي مكانة خاصة وزخما كبيرين للكتابات التي تتجاوز ذلك، وتقدم تحليلا جيو-اقتصاديا لعلاقات القوة بين الدول الكبري، وتتمكن من استشراف مستقبل تلك القوى، في ضوء أدوارها في النظام العالمي.
وفي هذا الإطار، حاول ستيفن سزابو، الأستاذ في الأكاديمية الأطلسية، في كتابه “ألمانيا وروسيا وصعود الدور الجيو-اقتصادي”، أن يوضح معالم صعود الدور الألماني في النظام العالمي الجديد، والأسس الجيو-اقتصادية التي صاغت ألمانيا وفقها علاقتها مع روسيا، ومستقبل هذه العلاقات، في ضوء المتغيرات الدولية المختلفة.
صعود ألمانيا الموحدة:
تمكنت ألمانيا من استعادة وحدتها القومية مع نهاية حقبة الحرب الباردة، وكذلك مكانتها التاريخية، وظهرت كلاعب قوى على الساحة العالمية، ووجدت لها دورا تحدده مصالحها بالدرجة الأولي. فيشير الكاتب إلي أن ألمانيا، التي تضم فائضا تجاريا أكبر من الصين، صارت تلعب دورا بارزا في الاتحاد الأوروبي، وتتمتع بسمعة عالمية غير مسبوقة في مجال “الحكم المحلي”.
وتتلخص رؤية سزابو في أن قوة ألمانيا الحقيقية لا تتمثل في إمكاناتها العسكرية، بل في نفوذ “الجغرافيا الاقتصادية” لديها، والمستمدة من ممارسة نوع من السياسة الواقعية التجارية التي تركز على اقتصادات الرفاهة. فشركات التصدير والاستثمار الأجنبي تحتل مكانة متميزة في خريطة السياسات الألمانية، وهو ما جعلها في مقدمة كبريات الدول المصدرة في العالم، بل تم تصنيفها في المرتبة الثانية عالميا.
ويركز المؤلف عند تحليله لطبيعة الدور العالمي الجديد لألمانيا على أن المصالح الألمانية لا تتطابق دائما بالضرورة مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، أو مع مصالح الشركاء الأوروبيين. ففي المقابل، تعي وتقدر جيدا أهمية علاقاتها مع روسيا، خاصة على الصعيدين الاستراتيجي والاقتصادي.
العلاقات الاقتصادية بين ألمانيا وروسيا:
يزخر الكتاب بالمعلومات التي توضح الجذور التاريخية للعلاقات بين ألمانيا وروسيا، كما يقدم قراءة تحليلية للسياسة الألمانية تجاه روسيا في فترة ما بعد الوحدة، وهو السياق الذي ربما تكون دراسته مدخلا مهما لفهم جذور الأزمة في أوكرانيا.
وفي هذا الصدد، يؤكد سزابو أن قطاع الأعمال الألماني لعب دورا محوريا في تشكيل السياسة الخارجية الألمانية تجاه روسيا، ولا يجد غضاضة في الحديث عن الجانب المظلم للتعاملات الاقتصادية الألمانية في روسيا، فيقول: “إن الولوج إلي السوق الروسية خلق فرصا هائلة لكل من الربح والفساد”.
ركز سزابو بشكل خاص على واحدة من الشركات الألمانية العملاقة في مجال الهندسة الكهربائية، هي شركة “سيمنز” لتوضيح العلاقات الاقتصادية الألمانية – الروسية. فيشير إلي أن استقبال روسيا في عهدي بوتين وميدفيديف لشركة “سيمنز” مشابه لاستقبال بطرس الأكبر للحرفيين والصناع الألمان الذين ذهبوا إلي روسيا القيصرية لتحديثها صناعيا. ولكن يبدو أن قواعد الاشتباك الألماني مع الاقتصاد الروسي قد تغيرت عن عهد القياصرة.
يشير المؤلف إلي أن “سيمنز” كانت الشركة الرائدة في مجال تحديث شبكة القطارات في روسيا، وحصلت في هذا الصدد على عقد قيمته نحو ملياري يورو خلال عامي 2005 و2006، ولكنها لم تحصل على هذا العقد مجانا. فقد كشفت التحقيقات عن أن شركة “سيمنز” في روسيا دفعت رشاوي لقطاع النقل بقيمة ثلاثة ملايين دولار للحصول على عقد التحديث، مما دفع البنك الدولي إلي فرض عقوبات على الشركة عام 2009، بعد كشفه عن هذه الممارسات الفاسدة، وهو الأمر الذي يكشف ويجيب عن أسئلة عديدة تتعلق بالجوانب السيئة لقصة نجاح الصادرات الألمانية في روسيا.
شركة “غازبروم” وعمق الروابط الجيو-اقتصادية:
يعد مجال الطاقة هو النموذج المثالي للتعبير عن قوة ألمانيا الجيو-اقتصادية في علاقتها بروسيا. وفي هذا السياق، تحدث سزابو عن شركة “غازبروم الجرمانية” التي تعد الشركة الألمانية لعملاق الغاز الروسي “غازبروم”، حيث تمتلك شركة غاز بروم الروسية أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي في العالم. ويكشف الجهاز الإداري لشركة غازبروم الجرمانية عن الترابط الروسي – الألماني في هذا المجال، حيث إن معظم موظفي الشركة إما كانوا مسئولين سابقين في ألمانيا الشرقية، أو عملاء جهاز أمن الدولة الألماني الشرقي السابق، وهو الجهاز الذي تعاون مع فلاديمير بوتين عندما كان عميلا للمخابرات السوفيتية في ألمانيا الشرقية في الثمانينيات. فعلى سبيل المثال، مدير شئون الأفراد والتمويل في الشركة ضابط سابق في جهاز أمن الدولة الألماني الشرقي، وقد قدم مساعدات لبوتين لتوظيف جواسيس في مدينة دريسدن في ألمانيا الشرقية، وهو الأمر الذي لا ينكره شخصيا، ولا الشركة.
كذلك، فإن شركة “نورد ستريم”، التي تمتلك “غازبروم الروسية” أغلب أسهمها، والمسئولة عن مد القسم البحري لخط أنابيب غاز “السيل الشمالي”، الذي يربط بين روسيا وألمانيا وباقي دول أوروبا الغربية، بعيدا عن أوكرانيا، مديرها التنفيذي هو “ماتياس فارنيغ”، القائد السابق لإدارة الاستخبارات الخارجية التابعة لجهاز أمن الدولة الألماني الشرقي، والذي تعاون أيضا مع بوتين في الثمانينيات فيما يتعلق بتجنيد مواطني ألمانيا الغربية لمصلحة المخابرات السوفيتية.
إحدي الشخصيات المؤثرة في جوانب العلاقة الجيو-اقتصادية بين ألمانيا وروسيا هو جيرهارد شرودر، المستشار الألماني السابق، الذي يرأس حاليا لجنة مساهمي شركة “نورد ستريم”. ورغم عدم وجود روابط بينه وجهاز أمن الدولة الألماني الشرقي السابق، فإن شرودر أضحي صديقا شخصيا لبوتين أثناء فترة حكمه، وهو يري إلي يومنا هذا أن بوتين يعد شخصا “ديمقراطيا لا تشوبه شائبة”.
ولإثبات وجهة نظره، نقل سزابو عن ماري لويز بيك، عضو البرلمان عن حزب الخضر الألماني، أن “المسئولين التنفيذيين لشركة غازبروم الجرمانية هم بمنزلة جماعة ضغط في ألمانيا لمصلحة الكرملين الروسي، يسعون إلي وضع مصالحهم فوق استراتيجية الطاقة الأوروبية الموحدة”.
مستقبل الدور الألماني العالمي:
في سياق ما سبق ذكره، ليس مستغربا أن تعلن حكومة أنجيلا ميركل أخيرا عما يسمي بـ ”Energiewende”، وهو التخلي عن الطاقة النووية، وإدخال الطاقة المتجددة محلها، حيث أعلنت الحكومة عن البدء في إغلاق المحطات النووية المخصصة لتوليد الكهرباء، والسعي إلي أن تصبح نسبه استهلاك الكهرباء في ألمانيا من الطاقة المتجددة نحو 35٪ عام 2020، بعيدا عن حقول الغاز “الهرمة” التابعة لـ “غازبروم”، وهو ما سيترتب عليه تقليص اعتماد ألمانيا على الطاقة الروسية على المدى البعيد.
وإلي جانب ما سبق، يوضح أيضا سزابو أن الوضع الجيو-سياسي لألمانيا هو أحد العوامل المحددة لمستقبلها. فقد تحدث عن تحول الولايات المتحدة بعيدا عن المهام الأمنية الأوروبية، وهو ما سوف يجبر ألمانيا على التفكير في خيارات استراتيجية أخرى، لأنها لن تكون قادرة على الاستعانة بمصادر خارجية في بلورة سياساتها الأمنية، كما فعلت على مدى العقود الستة الماضية.
واستنتاج سزابو الأكثر أهمية هو أن القرن العشرين كان يمكن أن يكون “القرن الألماني” بدلا من “القرن الأمريكي”، إذا ما امتلكت ألمانيا حينها قيادة سياسية، ونظاما ديمقراطيا ناضجا مثلما تمتلكه الآن. فلقد تعلمت ألمانيا من ماضيها النازي الرهيب، وتستعد لتصبح القوة الحقيقية التي يحتاج إليها العالم في القرن الحادي والعشرين.
ستيفن ف. سزابو
مجلة السياسة الدولية