سينعقد المنتدى العربي – الروسي على المستوى الوزاري في موسكو الأسبوع المقبل، في خضّم المعركة على سورية، وسط ارتفاع وتيرة التوتر الروسي – التركي وتضارب الحديث عن قوات برية سعودية وخليجية جاهزة لدخول الساحة السورية. وزير الخارجية الروسي سيكون واضحاً تماماً في رسم الأطر الاستراتيجية للسياسة الروسية في الشرق الأوسط وسيصرّ على جدول أعمال قد لا يرتأي الوزراء العرب أنه يتناسق مع الأولويات العربية.
فسيرغي لافروف لن يلطّف خطابه السياسي لمجرد أنه يستضيف المنتدى، ذلك لأن الخطوط العريضة للسياسة الروسية نحو منطقة الشرق الأوسط، كما وضعها الرئيس فلاديمير بوتين، غير قابلة للأخذ والعطاء من وجهة نظر موسكو. فإذا كان في ذهن الوزراء العرب إحداث تغيير جذري في السياسات الروسية، فسيجدون أمامهم حائظ الممانعة وربما الاستنكار لأن الأمر يتعلق بالمصالح القومية الروسية. المزاج الروسي يتّسم هذه الأيام بالعناد والتصلّب، انما في الديبلوماسية الروسية من يعتقد أن هناك مداخل لتليين العلاقات مع الدول الخليجية بالرغم من تصدّع العلاقات في شأن سورية. ويرى هؤلاء أن بناء علاقات مميزة مع مصر استثمار ضروري للديبلوماسية الروسية وبات جزءاً من أهدافها في الشرق الأوسط. وفي ذهنها أيضاً تركيا. وتصر على مركزية الفوز في معركة حلب مهما كان الثمن. وتستخف بما يسمى «التحالف الدولي» ضد «داعش» في سورية وتكاد تتشدَّق بما تصفه «باللافاعلية». وتنبّه كل من يريد أن يفهمها ويفهم سياستها لمنطقة الشرق الأوسط إلى أن علاقاتها مع إيران لن يشوبها ضرر مهما قيل ومهما حدث.
أمام هذا الوضوح، بمَ يذهب وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي إلى موسكو؟ وهل هناك من أجندة عربية واحدة في المنتدى العربي – الروسي، أم أن الوزراء العرب سيحملون خلافاتهم الى العاصمة الروسية ويغادرونها بلا أي انجاز؟ لعله من المفيد قبيل المنتدى أن يوفق الوزراء العرب بإدراك ما يجول في ذهن الديبلوماسية الروسية أمنياً واستراتيجياً.
سورية تشكل نقطة خلاف أساسية، عسكرياً بالذات، في ضوء الإصرار الروسي على حسم معركة حلب لمصلحتها ولمصلحة النظام في دمشق. فوفق المصادر الروسية الوثيقة الاطلاع، لا توقف عن الغارات ولا تردد في أية إجراءات عسكرية برية بالشراكة مع النظام وحلفائه من ميليشيات، الى حين تأمين الفوز بحلب وقطع الطريق على التواصل مع تركيا. هذه الاستراتيجية عسكرية لا تراجع عنها تحت أي ظرف كان، بل ان موسكو ازدادت تمسكاً بها نتيجة رفع تركيا التوقعات بهجوم بري، ما لبثت أن خفضتها بعد أيام.
موسكو ترى أن قطع التواصل بين سورية وتركيا يقطع الإمدادات التي تتهم أنقرة بأنها تمدّها الى التنظيمات الإرهابية التي تتعدى «داعش» و «جبهة النصرة» وفق المفهوم والتعريف الروسيين. وترى أن إعادة سيطرة النظام السوري على حلب ترفع معنوياته وتمكّنه من خوض بقية المعركة الروسية ضد التنظيمات الإسلامية التي تصنّفها ارهابية. إذاً، حلب محطة حيوية في الاستراتيجية الروسية ولن تتوقف عن قصفها، لا من أجل «عملية فيينا» السياسية التي ولّدتها روسيا، ولا خوفاً من ردود الفعل الأوروبية أو الأميركية.
التباين واضح بين ردود الفعل الأوروبية الأكثر حدة من الأميركية، أقلّه لأن أوروبا تخشى على نفسها من السياسة الروسية وإفرازاتها بتدفق اللاجئين إليها.
الديبلوماسية الروسية تشير الى ما تسميه بالتوافق الروسي – الأميركي على «خطة طريق» في سورية، تغض النظر عن علاقات «الحرب الباردة» بين البلدين في أكثر من محطة، بما فيها الشرق الأوسط.
«عملية فيينا» للبرنامج السياسي والزمني لوقف النار والانتخابات تشكل جزءاً من خريطة الطريق كما تراها موسكو. أما عندما يتعلق الأمر بالحرب على «داعش» و «النصرة» وغيرها، فإن لدى الديبلوماسية الروسية مآخذ وأجندا مختلفة.
فأولاً، إن المعركة على تعريف من هو إرهابي ومَن هو معارضة سورية مسلحة ليست سوى مسألة ألفاظ. وجهة النظر الروسية الحقيقية هي أن النظام القائم في دمشق برئاسة بشار الأسد هو النظام الشرعي وأن المعارضة المسلحة ليست شرعية لأنها تتحدى النظام الشرعي. وبالتالي، مَن هو إرهابي ومَن هو معارضة ليس سوى جزء من المطاطية الديبلوماسية الضرورية، وليس أمراً جدّياً. ليس جدّياً لأن موسكو ترى كيف تتعامل واشنطن مع المعارضة السورية المسلحة التي تشكك فيها تارة، وتعد بتسليحها تارة، تتشبث بها يوماً وتتملص منها في اليوم التالي.
ثانياً، تنظر الديبلوماسية الروسية الى التعهدات الأميركية بسحق «داعش» في سورية بأنها خالية من الجدية والفاعلية لأن تحقيق ذلك، في اعتقاد موسكو، ليس ممكناً سوى عبر النظام في دمشق وحلفائه على الأرض. وبالتالي، إن الخلاف بين المفهوم الأميركي والمفهوم الروسي لمتطلبات سحق «داعش» مختلفان جذرياً – أحدهما يراه ممكناً عبر التخلص من بشار الأسد لأنه يمثل عقبة أمام الحشد السنّي الضروري لسحق «داعش»، والآخر يراه ممكناً فقط عبر بشار الأسد والميليشيات الداعمة له بغطاء القصف الجوي الروسي.
لهذا السبب لا ترحب موسكو بالقوات العربية البرية حتى ولو أتت لسحق «داعش» في الساحة السورية، تحت لواء القيادة الأميركية للتحالف الدولي. إنها متمسكة حتى النهاية بنظام الأسد ولن تقبل بدخول قوات عربية الى سورية في حرب ضد «داعش» لأنها تخشى على مصير الأسد. موسكو لا تأبه باتهامها بأنها تقصف المعارضة وليس «داعش». لا تأبه بالانطباع بأنها لا ترحب بالمعونة العربية في الحرب على «الإرهاب السنّي» المتمثّل في «داعش» وغيره خوفاً من أن يؤدي ذلك الى إسقاط النظام أو إضعاف الأسد.
هناك رأيان حول الانخراط العربي الميداني في سورية، السعودي والإماراتي والمتعدد الجنسية العربية والإسلامية: رأي يقول ان لا مناص من توفير القوات البرية العربية – الإسلامية لتكون «الأقدام على الأرض» التي لن تتقدم بها الولايات المتحدة، وإلا، فإن روسيا وإيران والنظام في دمشق سيربحون المعركة على سورية كلياً وستنقرض المعارضة السورية. الرأي الآخر يقول، ان هذا فخ توريط لا ضرورة للسعودية أو الإمارات أو غيرها أن تقع فيه لأن واشنطن ستورّط وتهجر في منتصف الطريق، كعادتها، ولأنه فات الأوان على أي تغيير في المعادلة السورية بعدما تدخلت روسيا ميدانياً وقررت حسم الموازين العسكرية لمصلحة النظام.
ثم هناك العنصر التركي والعنصر الكردي. واشنطن تؤيد الأكراد وتسلحهم في العراق بصفتهم «الأقدام على الأرض» للتحالف ضد «داعش»، تتعاطف مع الطموحات الكردية انما ليس لدرجة إنشاء دولة كردية مستقلة تجمع كرد العراق وسورية وإيران وتركيا… أقله ليس الآن. وأنقرة تعتبر تحقيق هذا الحلم خطّاً أحمر لأنه يقضم أجزاء كبيرة من تركيا، والرئيس رجب طيب أردوغان عازم على مواجهة التنظيمات الكردية السورية إذ يعتبر بعضها إرهابياً والآخر حليفاً لنظام الأسد في سورية. وروسيا سعيدة بمساهمات الكرد العسكرية لمصلحة النظام في دمشق ولمصلحة استراتيجيتها في سورية، وهي تراهن على أن واشنطن ستضغط على أنقرة لتخفف حدة تهديداتها بالتدخل البري في سورية ملاحقة للأكراد. تراهن على أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) لن ينجرّ ولن يتورط بالرغم من أن تركيا عضو فيه وهناك التزامات بموجب ميثاقه. تراهن على الفتور الأميركي في انتقاد سياساتها في سورية كعامل مؤثر في تخفيف وطأة تصاعد الاحتجاج الأوروبي ضد الدور الروسي والقصف الروسي وسياسات التهجير الى أوروبا والتي يعتقد البعض أن موسكو تتعمدها قصداً وليست مجرد إفرازات طبيعية للعمليات العسكرية.
في كل هذا، تنظر الديبلوماسية الروسية الى الخريطة ذات العلاقة بتركيا في سورية بنظارات العداء المتبادل بين بوتين وأردوغان اللذين يوصفان بالقيصر والسلطان. كما ينظر كل منهما الى نفسه والى طموحاته الشخصية والقومية. انما هناك، بالتأكيد، عناصر تتعدى طبيعة الرجلين وتدخل في خانة التوجهات الأيديولوجية والدينية لكل منهما، إذ يرى بوتين أن صعود الإسلام السياسي السنّي بالذات يشكل خطراً على روسيا، وهو يجد في أردوغان محطة توليد للإسلام السياسي معتدلاً كان أو في غاية التطرف. أما أردوغان، فإنه تصوّر نفسه سلطان الإسلام السياسي لإعادة بسط النفوذ العثماني في كامل المنطقة العربية. استثمر غالياً في سورية وتصرّف بعنجهية، فساهم جذرياً بما آلت اليه الأوضاع من كارثة على سورية وأصبح اليوم في مواجهة مع عنجهية التدخل العسكري الروسي والذي هو عنصر حاسم أيضاً في المأساة السورية.
الفارق أن روسيا تعتبر نفسها منتصرة في المعركة السورية وتعتمد الخطوط الحمر لإنذار تركيا وتحذيرها من المواجهة معها في الأراضي السورية. أما تركيا فإنها تبدو متعثرة واعتباطية وخاسرة أمام روسيا في سورية. تركيا تبدو أيضاً خاسرة في مصر التي جعلت منها أولى محطات توليد صعود الإسلام السياسي الى السلطة عبر «الإخوان المسلمين». فلقد لاقى مشروع «الإخوان المسلمين» حتفه بأسرع مما كان متوقعاً وحل مكانهم في مصر حكم معادٍ كلياً لأحلام أردوغان بإحياء العثمانية. فتلقى فلاديمير بوتين هذه الخسارة ليجعل من مصر موقعاً حيوياً في الاستراتيجية الروسية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
مصر، وفق المصادر الديبلوماسية الروسية نفسها، تشكل حالياً إحدى أهم الركائز في السياسة الخارجية الروسية تلي في مراتب الأهمية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، انما تسبق الدول الخليجية العربية.
فموسكو تعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية مركزية لها في إطار التحالفات الإقليمية – الدولية، ووفق الديبلوماسية الروسية إن العلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية علاقة استراتيجية بعيدة المدى. نقطة على السطر. أي، بغض النظر عما إذا تحكّم الملالي المعتدلون بإيران أو الملالي المتشددون و»الحرس الثوري»، فموسكو تعتبر طهران أهم علاقة ثنائية لها في كامل الشرق الأوسط، أعجب ذلك عرب الخليج أو أغضبهم، تعايشوا معه أو عارضوه.
ما في ذهن الديبلوماسية الروسية يشمل – الى جانب الأولوية الحاسمة لطهران يليها علاقة استراتيجية مع مصر – تطوير الحوار مع السعودية والإمارات ودول خليجية أخرى على أساس مفهومين أساسيين هما: أولاً، إن العلاقة الروسية – الإيرانية ثابتة واستراتيجية وتحالفية، انما ذلك لا يمنع من إقامة علاقات قابلة للتطوير بين روسيا والدول الخليجية العربية بغض النظر عن اختلافاتهم في شأن سورية. ثانياً، إن العلاقة الأميركية – الخليجية الآخذة في التراجع وانعدام الثقة تمثل نافذة على علاقات نوعية جديدة بين موسكو ودول خليجية.
بكلام آخر، إن في ذهن الديبلوماسية الروسية إحداث نقلة في العلاقات عبر بوابة تسليح الدول الخليجية. فموسكو تجد فائدة مشتركة في سوق السلاح، إذ انها قاعدة اقتصادية واستراتيجية لها وتشكل، من وجهة نظرها، وسيلة للدول الخليجية المستاءة من واشنطن لتقول لها أن لديها خياراً آخر.
إضافة الى ذلك، إن ما يريده الرئيس فلاديمير بوتين لروسيا يتعدى الفوز بسورية والذي هو بحد ذاته ذو منافع استراتيجية واقتصادية وسياسية له، ولعلاقاته التحالفية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولتعهده بالقضاء على الإرهاب السنّي بعيداً عن المدن الروسية. ما يريده بوتين هو تثبيت روسيا في خريطة الشرق الأوسط لاسيما أن الفرصة سانحة اليوم مع انحسار الاهتمام الأميركي بالمنطقة في عهد الرئيس باراك أوباما. فالديبلوماسية الروسية، كما يراها الرئيس بوتين، تنظر الى واشنطن باستمرار من منظور الحرب الباردة بغض النظر إن كانت العلاقات معها اليوم علاقات شراكة فعلية في سورية.
الديبلوماسية الروسية لا ترى في سياساتها أية مغامرة أو أي إحراج، مهما تعاظمت الكلفة الإنسانية في سورية أو تزايد الكلام عن تورط في مستنقع أو في استنزاف في معركة طويلة الأمد مع «داعش» و «القاعدة» وأمثالهما. أكثر ما ستقدمه لدول مجلس التعاون الخليجي هو غض النظر عما يحدث في اليمن بلا تدخل مباشر لمصلحة الموقف الإيراني هناك. أما سورية، فإن الخطوط العسكرية والسياسية واضحة وستبلغها الديبلوماسية الروسية الى الديبلوماسية العربية في المنتدى في موسكو. فعسى أن يتوجه الوزراء العرب الى اللقاء بالوضوح والصراحة، بغض النظر إن كان خيارهم المواجهة الجدية أو التأقلم مع ما فرضته روسيا عبر تدخلها عسكرياً في الساحة السورية كأمر واقع استراتيجي أهدافه بعيدة المدى بأولويات إيرانية.
راغده درغام
صحيفة الحياة اللندنية