بحصارها مدينة حلب التاريخية، وإغلاقها الحدود السورية التركية، بعد ضغطها المتواصل على مواقع المقاتلين السوريين، تضرب روسيا أكثر من عصفور بحجر واحدة. تقضي على قوى الثورة السورية المسلحة التي كانت، منذ البداية، هدف تدخلاتها الدبلوماسية والعسكرية، وتهدد أوروبا التي فرضت العقوبات عليها بالتفكك تحت ضغط طوفان اللاجئين المستعدين لركوب كل المخاطر للوصول إليها، وتدمر آخر ما تبقى للولايات المتحدة والغرب من صدقيةٍ لدى حلفائهما الإقليميين، وبالتالي، من نفوذ في الشرق الأوسط والعالم.
ولا شك في أن موسكو حققت جزءاً كبيراً من هذه الأهداف، وأنها قادرة على استكمالها إذا أصرت. لكن نتائج ذلك لن تكون بالتأكيد مطابقةً لما تتوقعه روسيا نفسها من استعراض قوتها العسكرية، ولا ما تراهن عليه الكتلة الغربية من إمكانية وضع حد لمسلسل الانهيارات المتوالية التي يقود إليها استمرار الحرب، سواء ما تعلق منها بالإرهاب أو اللاجئين، أو الاستقرار الإقليمي والدولي.
فلن يساعد مثل هذا التطور الميداني والجيوستراتيجي على إيجاد أي حل للمشكلات التي فجرت الحرب في سورية، وسعّرت من نيرانها، وأمدت بأجلها، ولا في إنقاذ المنطقة المشرقية من جحيم المواجهات الدموية التي تتهددها، ولا بتخليص القارة الأوروبية والعالم من الإرهاب المتنامي على هامش هذه المواجهات، ولا من باب أولى استعادة الأمن والسلام في الشرق الأوسط وترميم النظام الدولي الذي قوّضته الحرب، وإعادة بنائه على أسس أكثر تماسكاً وصلابة. إنما ستفاقم بالعكس من التصدعات والتناقضات والشروخ التي تكمن في أساس الانفجارات والصراعات المستمرة منذ سنوات.
ففي سورية، تهدد سياسة الأرض المحروقة التي تتبناها الحكومة الروسية، والتي لا تعير أي
اهتمام لحياة الإنسان في معاركها الداخلية والخارجية، بكارثة إنسانية محققة، تتجاوز كل ما نجم سابقاً عن تدمير النظام السوري مدناً وبلدات سورية عديدة، وتجويع أهلها، ودفعهم إلى الهجرة القسرية في السنوات الخمس الماضية. وتقود الحملة التي تشنها الطائرات الروسية، بالتنسيق مع القوى الإيرانية لإعادة احتلال الشمال السوري، وحصار منطقة حلب وإخضاعها، والتي تستهدف عمداً المستشفيات والمدارس والخدمات العامة، من أجل إفراغ المدينة وريفها من سكانها، وتسوية عمرانها بالأرض، لطرد المقاتلين منها، وتسهيل السيطرة عليها في ما بعد، بقوات محدودة، إلى زيادة عدد القتلى والجرحى والمعطوبين من المدنيين، وإلى إطلاق موجة هجرةٍ لامحدودة، نحو الحدود التركية المغلقة، والتي ستزداد إغلاقا في المستقبل.
وعلى المستوى السياسي، لن يساهم حصار حلب وتدميرها في زيادة فرص التوصل إلى تسوية مفروضةٍ بالقوة، كما يفكر بعضهم، لكنه سيفقد نظام الأسد صوابه، ويضاعف من تعنته ورغبته في سحق معارضيه، ويزيد من تصلب المعارضة السياسية والمسلحة التي فقدت ثقتها تماماً بنيات روسيا وسياساتها. وبدل أن يعمل هذا الحسم العكسري الروسي على عزل المنظمات المتطرفة المقاتلة على الأرض، سوف يساهم في توسيع قاعدتها، وصب مزيد من الزيت على نار روح الانتقام والثأر التي تلهب مشاعر أعضائها وتحركها. وعوض أن يعطي مثل هذا التحول بصيص أمل للسوريين، سوف يزيد من شقائهم ويأسهم وضياع ثقتهم بأنفسهم والعالم. وستتفاقم، بسبب ذلك، الأفعال وردود الأفعال اليائسة واللاعقلانية بين جميع أطرافهم، الموالية والمعارضة.
أما على المستوى الإقليمي، فلن يساهم الحسم العسكري الذي يبحث عنه الروس والإيرانيون في حلب، وسورية عموماً، في وضع حد للحرب الإقليمية التي تدور، منذ ثلاث سنوات، على الساحة السورية، وعلى حساب دماء السوريين وعمرانهم ومستقبلهم، وإنما سوف يدفع إلى مزيد من انخراط الأطراف الإقليمية بالحرب، وهي التي لن تقبل بخسارة رهاناتها واستثماراتها الكبيرة في السنوات الخمس الماضية، ولا بالتسليم لإملاءات موسكو وطهران، في تحديد مصيرها ومصير العلاقات الدولية في المنطقة. فمثل هذا الموقف لا يعني خسارتها مصالحها في سورية فحسب، وإنما زعزعة استقرارها السياسي، وتفجير أزماتها الداخلية، وربما دفعها على الرغم منها إلى الانزلاق إلى الحرب، من دون حساب للمخاطر، أملا بانقاذ نفسها واستثماراتها والدفاع عن موقعها وصدقية خياراتها. ومما يزيد من هذا الاحتمال التداخل الذي اشتغلت عليه طهران نفسها في هذه الحرب بين الهيمنتين، الإقليمية والمذهبية الدينية، بحيث سيبدو انتصار طهران انتصاراً للشيعة وخسارة تركيا والعرب خسارة للسنة. ما يضع بذور “حرب مقدسة”، ستجد نخب المنطقة صعوبات هائلة لإخراج الجمهور الشعبي منها، وإعادة توجيه الجهد الجماعي والشعبي نحو إعادة بناء الدولة والمجتمع، وإطلاق الحياة المدنية الطبيعية.
وهذا يعني أن حسم المعركة في حلب لصالح المحور الإيراني الروسي لن يساهم في إيجاد
فرص أفضل لتفاهم إقليمي، أصبح شرطاً للخروج من المحرقة السورية، للسوريين ولجميع شعوب المنطقة، لكنه سوف يخلق شروط حربٍ طويلةٍ ومدمرة، قد تكلف شعوب الإقليم ملايين القتلى والمنكوبين، كما هي حال الحروب الدينية التي عرفتها أوروبا في القرن السابع عشر، وكلفت بعض دولها إبادة أكثر من ثلث سكانها. وفي النهاية، لن يكون الرابح سوى الموت والخراب وحدهما. ولا ينبغي أن نقلل من مخاطر هذا الاحتمال، مع وجود نظام سياسي بابوي، بالمعنى الحرفي للكلمة في طهران، من جهة أولى، يحتل فيه آية الله، أو رئيس الهيئة الدينية، قمة السلطة. ولا أمل للنخبة الدينية في المحافظة على سيطرتها على الدولة والمجتمع، إلا بالحفاظ على تعبئة دينية قوية، وتهييج المشاعر المذهبية، وانهيار المرجعية الدينية الرسمية للعالم السني، وصعود التيارات والحركات السياسية الدينية غير المسيطر عليها، والخاضعة لقيادات دينية وسياسية شعبوية الطابع، من جهة ثانية.
بدل أن تفرح إيران من النصر الذي تقدمه لها روسيا على طبق من دم، ينبغي عليها بالعكس أن ترى فيه هدية مسمومة للمستقبل. ما يبدو نصراً لها اليوم، بفضل مليشياتها المذهبية ودعم روسيا اللامحدود الموجه أساسا لمعاقبة الغرب والانتقام منه، قد يتحول، ولا بد أن يتحول، إلى كارثة عليها على المدى المتوسط. ومهما نجحت سياسة النخبة “الشيعوية” الحاكمة، الضيقة الأفق، في تهجير ملايين المسلمين السنة، أو زعزعة استقرار بلدانهم وزرع الخراب فيها، فسوف يأتي وقت ينقلب فيه اتجاه الريح، وتجد طهران نفسها ضحية السياسات المذهبية الضيقة الأفق والانتحارية التي غذتها وراهنت عليها في العقود الأربع الماضية. ولن تكون النتيجة انتصار مذهبٍ على آخر وإنما إخراج المنطقة، بما فيها إيران المعتدة بنفسها اليوم، بسبب ثروتها النفطية وتحالفاتها اللاأخلاقية، بأكملها من التاريخ والحضارة.
لا يختلف الأمر عن ذلك على المستوى الدولي. ستكون أوروبا أول البلاد غير المشرقية الخاسرة. وهي وحدها التي ستجد نفسها أمام تحدياتٍ لن يكون لديها القدرة وحدها على مواجهتها، سواء في ما يتعلق بزحف موجات المهاجرين الجدد الفاقدين أي أمل إليها، عبر البر والبحر والجو، أو في ما يتعلق بتنامي القوى الظلامية والمتطرفة المنتجة للإرهاب على أراضيها. وكلاهما يتغذّى من الآخر، فاليأس والضياع يغذيان التطرف، تماماً كما يغذّي التطرف خوف الدول الغربية من اللاجئين، ورفض استقبالهم، وبالتالي، تعزيز مشاعر الكراهية والحقد لدى هؤلاء على الدول التي تغلق حدودها أمامهم، وبالتالي من مخاطر انتقامهم. في المقابل، بمقدار ما يقوّض الحل الروسي القائم على إقصاء حلفاء واشنطن صدقية التحالف الغربي والقيادة الأميركية التي سلم لها الأوروبيون منذ الحرب العالمية الثانية، سوف يضعف أوروبا، ويزيد من رغبة الروس في التحرّش بها وزعزعة استقرارها، ويعرّض الغرب كتكتل جيوستراتيجي لزلزال التفكك والانقسام.
وكما أن ربح إيران من إقصاء العرب والأتراك في سورية سيكون ربحاً من دون قيمة وقصير
المدى، ومقدمة لحروب جديدة قادمة، يشكل رهان روسيا على تفجير التحالف الغربي، بدل التعاون معه لإصلاح نظام العلاقات الدولية، خياراً قصير النظر، وستكون له نتائج سلبية على روسيا نفسها التي كانت، ولا تزال، على الرغم من كل الصراعات التي ميزت تاريخها الحديث، شريكاً رئيسياً لأوروبا وجزءاً منها، حتى لو كانت الأقل حظاً من نهضتها وتقدمها. فبضغطها المتواصل على أوروبا، ودفعها لها ولمحيطها المتوسطي إلى مزيد من الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار، لا تضمن موسكو لنفسها مصالح حقيقية مهمة، وإنما تدفع، بالعكس، إلى إيجاد بيئة إقليمية غير صحية طاردة للاستثمارات والمواهب والموارد البشرية والمادية من عموم القارة. وهكذا، تلعب روسيا، بحماقتها السياسية والاستراتيجية، النابعة من مشاعر الحقد والغيرة والانتقام، الدور الأكبر في غروب المدنية الأوروبية المتوسطية التي عاشت روسيا على أفضالها وتبادلاتها معها قروناً طويلة ماضية، لصالح انتقال مركز الحضارة والمدنية والاستثمار والإبداع نحو آسيا والصين التي تتفرّج على المأساة من بعيد، وتربت على كتف موسكو من وقت إلى آخر.
ومع ذلك، ليس ما يحصل في المنطقة من صنع الأحقاد المدفونة والظاهرة في موسكو أو طهران أو دمشق، ولكن أغلبه جزء من تداعيات السياسات الأميركية والغربية الطويلة المدى، الاستعمارية والهيمنية، العقلانية والمدروسة، التي أوصلت المنطقة، ووصلت هي نفسها، إلى طريق مسدود. لكن سياسة ردود الفعل، والرغبة في التحدّي والتشفي والانتقام، قد تأتي بنتائج أكثر سوءاً، حتى بالنسبة لأصحابها أنفسهم، من الأفعال الأصلية السيئة المردود عليها. وإذا كان استبداد الحماقة ببعض النظم المأزومة والشخصيات العديمة المسؤولية في منطقتنا قد أودى بنا إلى ما نعرفه من مهالك، فما بالك إذا ما تحول خيار شمشون إلى خيار استراتيجي لواحدةٍ من أعظم القوى العسكرية في العالم، وقطب رئيسي من أقطابه.