قرار وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي (الناتو) تعزيز الوجود العسكري في دول أوروبا الشرقية المنضوية في إطار الحلف، لردع ما سماه الأمين العام للحلف ينس ستولتنبيرغ، بـ”العدوان الروسي المتكرر”، يرسم في طياته تحولا في العلاقة الروسية الأطلسية.
وقد أثار ذلك القرار بزيادة وجود الحلف على أراضي الدول الشرقية المنضوية في إطاره والمتاخمة للحدود الروسية، ضجة إعلامية كبيرة، ليس لجهة القرار بحد ذاته، فدول الحلف -لاسيما الولايات المتحدة الأميركية– بدأت عمليا تعزيز وجودها العسكري في هذه المناطق منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، غير أن الحيثيات التي ساقها وزراء دفاع دول الحلف لزيادة عدد القوات مرة أخرى، في بولندا ورومانيا وبلغاريا ولاتفيا وليتوانيا واستونيا، عكست توترا غير مسبوق بين (الناتو) وروسيا في العقدين الأخيرين.
وهو ما عبّر عنه الأمين العام للحلف بالقول: “إن زيادة حلف الأطلسي نشر قواته سيوجه رسالة قوية لأعدائنا تعكس مدى استعدادنا للرد على أي تهديد والدفاع عن حلفائنا، وسيقوم الناتو بالتركيز بشكل خاص على منطقة بحر البلطيق خلال العام الحالي”.
“زيادة وجود الناتو في دول البلطيق على نحو خاص، استونيا ولاتفيا وليتوانيا، يثير حفيظة روسيا بدرجة عالية، فالحدود الاستونية لا تبعد إلا نحو 40 ميلا عن مدينة سانت بطرسبرغ، ويجمع روسيا مع البلدان الثلاثة تاريخ مضطرب، يلقي بظلاله على العلاقات معها”
وتبرز هنا ملاحظتان جديرتان بالاهتمام، الملاحظة الأولى زيادة وجود الناتو في دول البلطيق على نحو خاص، استونيا ولاتفيا وليتوانيا، يثير حفيظة روسيا بدرجة عالية، فالحدود الاستونية لا تبعد إلا نحو 40 ميلا عن مدينة سانت بطرسبرغ، ويجمع روسيا مع البلدان الثلاثة تاريخ مضطرب، يلقي بظلاله على العلاقات معها.
فمازالت لاتفيا واستونيا تعتبران أن روسيا استولت في الحقبة السوفيتية على جزء من أراضيهما، وتطالبان باستردادها، بينما تتعامل روسيا مع بلدان البلطيق الثلاثة كمناطق نفوذ لها، بصرف النظر عن عضوية هذه البلدان في حلف الناتو، لتغلغل المصالح الاقتصادية والروسية الروسية فيها، خاصة في قطاع الطاقة، والثقل السياسي والديمغرافي الذي تتمتع به الأقلية السكانية الروسية في لاتفيا واستونيا.
الملاحظة الثانية وصف أمين عام حلف الناتو لروسيا بـ”العدو”، والتلويح برد عسكري على أي عمل تقوم به روسيا وترى دول الحلف أنه يشكل تهديدا للبعض منها، ولم يقتصر التلويح برد عسكري للدفاع عن أراضي الدول الأعضاء، بل عن الحلفاء أيضا، وهي صيغة أوسع من نطاق الحلف وتحتمل تأويلات شتى.
دينامية تدفع للمواجهة
في تحليل الخطوة؛ ثمة من يرى أن تحرك الناتو شرقا من شأنه أن يولد دينامية تدفع لمواجهة بين روسيا والحلف، توصف من قبل محللين غربيين بأنها نسخة ثانية من الحرب الباردة، بينما يميل كثير من المحللين الروس إلى التشديد على أن الحرب الباردة بنسختها الأولى لم تنته أصلا حتى تظهر نسخة ثانية، والخلاف هنا ليس شكليا، بل يُستند إليه في تأسيس فهم مختلف لسياق العلاقة وتطورها بين روسيا والغرب منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
لكن لا خلاف على أن الجانبين الروسي والأطلسي بدءا يتصرفان منذ وقت ليس بالقصير انطلاقا من أن قواعد اللعبة قد تغيرت تماما، وسواء كانت الحرب الباردة التي ولدت من رحم الحرب العالمية الأولى على أسس أيديولوجية لم تستكمل أهدافها بتفكك الاتحاد السوفييتي، وبالتالي ألبسها الغرب خلال العقدين الماضيين “قفازات ناعمة” وبقيت قائمة، أو سيشهد العالم ولادة نسخة ثانية من تلك الحرب، تدور المواجهة فيها حول الانتهاء من تفكيك العلاقات المعقدة التي نشأت بين دول الاتحاد السوفييتي السابق، في عملية تسعى روسيا من خلالها إلى استعادة تأثيرها، قدر ما يمكنها كوريثة للاتحاد السوفييتي على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية في إطار ما يصطلح على تسميته في الخطابين الإعلامي والسياسي الروسيين بـ”الفضاء السوفييتي”.
في المقابل يسعى الغرب إلى تثبيت أوضاع الدول الحليفة له في مواجهة التأثير الروسي واستعداد روسيا لاستخدام خيارات خشنة، مثلما جرى مع جورجيا 2008 ومع أوكرانيا عام 2014، واستغلت روسيا في خياراتها تلك النزاعات القومية في الدولتين المذكورتين، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا وإقليم دونباس في أوكرانيا.
وهناك العديد من دول الاتحاد السوفييتي السابق تعاني من ظروف مشابهة، على سبيل المثال لا الحصر إقليم بريدنيستروفييه في مولدافيا الذي أعلنت فيه جمهورية من جانب واحد طالب القائمون عليها بالانضمام إلى روسيا، وإقليم ناغوني كاراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، وهو ما يخلع على المواجهة بين روسيا والغرب أبعادا إضافية تحكمها حسابات معقدة.
“ثمة رأي راجح في الغرب يتمثل في أن ضم القرم والتدخل العسكري في سوريا أدخل روسيا في معادلة تلعب فيها دورا عسكريا أكبر بكثير من إمكانياتها السياسية والاقتصادية، الأمر الذي يجبر حلف الناتو على اتباع سياسات للحد من النفوذ الروسي في الجوار الإقليمي المباشر وفي الجوار البعيد”
رهانات متضاربة
للمفارقة؛ يراهن الغرب على أن روسيا لا تشكل قوة جاذبة لغالبية دول الاتحاد السوفييتي السابق، بل قوة نابذة للعديد منها، بينما تراهن روسيا على أن الدول الأقرب للغرب من بين دول الاتحاد السوفييتي السابق تعاني من مشاكل داخلية قومية، تعطي لروسيا أوراقا رابحة غاية في الأهمية والقدرة على التأثير، في حين أن الغرب لم يمتلك حتى اللحظة إستراتيجية متكاملة تمكنه من خلق واقع جديد في “فضاء الاتحاد السوفييتي السابق”، مدخله تثبيت الاستقرار في دول حليفة له مثل لاتفيا واستونيا ومولدافيا وأوكرانيا، من خلال تقديم دعم كاف في المجالات الاقتصادية والتنموية الاجتماعية والأمنية.
إلى جانب ما سبق؛ تعتقد دوائر مقربة من مركز القرار في موسكو أن خيارات الغرب في المواجهة مع روسيا محكومة بالحفاظ على روسيا قوية، لأن تراجع الدور الروسي في “فضاء الاتحاد السوفييتي السابق” قد يقود إلى اضطرابات على نطاق واسع ستصل ارتداداتها إلى العمق الأوروبي، ومن باب أولى المحافظة على روسيا نفسها قوية ومستقرة داخليا، إذ أن تعريض الاستقرار الداخلي الروسي للخطر سيجعل المنطقة برمتها تغلي في مرجل صراعات قومية، ستكون بمثابة تسونامي يضرب استقرار وأمن العالم إذا فقدت السيطرة على القوة النووية الروسية الهائلة.
يعاب على مثل هذا الاعتقاد أن الغرب يريد روسيا قوية لكن بحدود معينة، وأن تكون سياساتها مضبوطة تحت سقف معين، وسيدفع الخروج عنه نحو مواجهة لا تخلو من مغامرة عدم الانضباط للحسابات، ويؤكد الحلفاء الغربيون أن روسيا قد بدأت المواجهة فعلا، بإقدامها على ضم شبه جزيرة القرم عام 2014.
ويلاحظ هنا أنه يتم إغفال الحرب الروسية الجورجية عام 2008، رغم أنها كانت مؤشرا لا يقبل الشك على أن رجل الكرملين القوي، فلاديمير بوتين، لن يتردد في استخدام سياسات خشنة، يثبت اليوم أنها لا تقتصر على “فضاء الاتحاد السوفييتي السابق”، بل تمتد إلى مناطق حساسة وساخنة مثل سوريا.
حدود المواجهة الممكنة
في الكفة الأخرى؛ ثمة رأي راجح في الغرب يتمثل في أن ضم القرم والتدخل العسكري في سوريا أدخل روسيا في معادلة تلعب فيها دورا عسكريا أكبر بكثير من إمكانياتها السياسية والاقتصادية، الأمر الذي يجبر حلف الناتو على اتباع سياسات للحد من النفوذ الروسي في الجوار الإقليمي المباشر وفي الجوار البعيد، أو بمعنى آخر تقليم أظافر السياسة الخارجية الروسية، في عملية تتطلب أن تبدأ بإرسال رسالة قوية إلى روسيا مفادها أن قواعد اللعبة تغيرت، وهو ما يهدف إليه القرار الأخير الذي اتخذه حلف الناتو.
إلا أن القراءة الروسية الخاصة لهذا القرار، ولسياسات الغرب وحلف الناتو عموما حيال روسيا، ترى أنه يمثل مجازفة كبيرة لا تستطيع دول الحلف بقيادة الولايات المتحدة تحمل نتائجها وتبعاتها، ووفقا لهذه القراءة، فإن المساس بروسيا يدفع العالم إلى حافة فوضى شاملة لا يمكن تخيل عواقبها الوخيمة على البشرية.
ويبدو أن موسكو لا تخشى من تشديد أو زيادة العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية عليها، فتجارب فرض العقوبات أثبتت أن نتائجها تظل محدودة نسبيا، ولا تظهر نتائج مؤثرة إلا بعد فترة طويلة. وفي الحالة الروسية يشكل اعتماد أوروبا على إمدادات الطاقة الروسية كابحا للغرب عن التوسع أو التمادي في العقوبات، كما أن العقوبات قد تنشأ عنها ردود فعل روسية غير منضبطة.
“يبدو أن موسكو لا تخشى من تشديد أو زيادة العقوبات، فتجارب فرض العقوبات أثبتت أن نتائجها تظل محدودة نسبيا، ولا تظهر نتائج مؤثرة إلا بعد فترة طويلة. وفي الحالة الروسية يشكل اعتماد أوروبا على إمدادات الطاقة الروسية كابحا للغرب عن التوسع أو التمادي في العقوبات”
ربما تتسم هذه القراءة، لاسيما في شقها الأخير، بشيء من الموضوعية، ويمكن أن تكون مقنعة لولا أنها تعتمد منهجا أحادي الجانب، فالاقتصاد الروسي يعاني من مشاكل بنيوية كبيرة، تجعله عرضة للتأثر على نحو عميق بأي عقوبات شديدة وموجهة، لأنه مازال بطابعه العام اقتصادا ريعيا، وبنيته بحاجة إلى إصلاحات جدية وجذرية لتحقيق معدلات تنمية معقولة، ويعاني من ضعف إمكانية استقطاب استثمارات خارجية.. الخ.
وفي المواجهة المباشرة مع قرار حلف الناتو، لم يشكل القرار مفاجأة لموسكو، فالأخيرة واظبت على إعادة بناء قوتها العسكرية وتطويرها منذ سنوات طويلة، وعملت على إظهار ما تحقق من خلال ضم شبه جزيرة القرم والتدخل العسكري في سوريا، وقبل ذلك الحرب مع جورجيا، ومازالت حتى اللحظة تكسب من وراء ذلك.
بيد أن هذه العملية جاءت على حساب التنمية، والحفاظ على ما تحقق عسكريا سيكلف موازنات كبيرة، مع محذور الدخول في سباق تسلح، كان أبرز سمات الحرب الباردة، وشكّل عاملا رئيسيا من عوامل انهيار الاتحاد السوفييتي.
ولذلك ليس من مصلحة روسيا توليد دينامية تدفع لمواجهة مباشرة مع الناتو، كما أنه ليس من مصلحة الناتو خوض مثل هذه المواجهة، لكن الباب يبقى مفتوحا على خوض مواجهات غير مباشرة، لن يتردد فيها الطرفان باستخدام كل الوسائل المتاحة، بما فيها الوسائل العسكرية، في حرب مفتوحة يتم كسبها من خلال النقاط.
والواقع أن تثبيت الحلف لأقدامه في الشرق يعطيه نقاطا ثمينة، إلا أنها غير حاسمة، فالمعركة ما زالت في بدايتها، ومع ذلك فمن المفروغ منه أن الإمكانيات السياسية والاقتصادية لها الدور الحاسم في نهاية المطاف، وهذا ليس في صالح روسيا على افتراض أن حلف الناتو سيكون جادا وموحدا في التصرف على الأرض على أساس أن قواعد اللعبة تغيرت.
عامر راشد
الجزيرة نت