لأمر ما بدأت شعلة ثورات الربيع العربي من تونس، وسرعان ما لحقت بها ثورة 25 كانون الثاني (يناير) المصرية. وإذا كان ما وقع في تونس هبة جماهيرية محدودة ضد تعسف قوات الشرطة، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى ثورة ضد نظام بن علي القمعي، احتجاجاً على الاستبداد وقمع الحريات، وإقصاء القوى السياسية كافة من دائرة صنع القرار.
وقد يبدو غريباً أن المؤشرات الاقتصادية التقليدية وأهمها معدل نمو الاقتصاد القومي في عهد بن علي كانت مرتفعة، غير أن الواقع الفعلي كان يشير إلى اتساع دوائر الفقر وارتفاع معدلات البطالة في الوقت ذاته.
ومن الغريب أن الموقف الاقتصادي في مصر – كما تبين بجلاء بعد ثورة 25 يناير – كان مماثلاً للوضع في تونس، وذلك لأنه في أواخر عهد الرئيس السابق حسني مبارك وصل معدل النمو الاقتصادي إلى 7 في المئة وهي نسبة مرتفعة، ومع ذلك بلغ عدد المواطنين المصريين ممن يعيشون تحت خط الفقر، 20 مليون مواطن.
ومعنى ذلك أن المؤشرات الاقتصادية المتعلقة بمعدل النمو الاقتصادي، والتي كان يقال في ظل النظريات الرأسمالية السائدة أن من شأنها أن تؤدي إلى تساقط ثمار النمو على باقي الطبقات الاجتماعية، هي مؤشرات زائفة ولا تتسم بالصدق الموضوعي.
ومن الطريف أن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة نظمت ندوة مهمة لمدير الأبحاث في البنك الدولي شاركت فيها مع مجموعة منتقاة من أساتذة السياسة والاقتصاد، وكان محور الندوة سؤال أساسي طرحه هذا الخبير الدولي الإيطالي في شكل لغز طلب من المشاركين المصريين في الندوة حله.
ويتمثل اللغز في أن معدل النمو الاقتصادي وصل قبل ثورة 25 يناير إلى 7 في المئة، ما يدل على ازدهار الاقتصاد وبالتالي استفادة الطبقات الاجتماعية كافة، وقرر الرجل أن هذا المعدل حسب بطريقة علمية دقيقة لا شك فيها. غير أن هناك ما يطلق عليه «المسح العالمي للقيم» وهو مشروع لاستطلاع آراء الجماهير في مختلف دول العالم أشرف عليه عالم الاجتماع الأميركي الشهير إنغلهارت ثبت فيه حين طبق في مصر أن الجماهير المصرية قررت بوضوح معاناتها من الفقر وتدني مستويات المعيشة مع أن معدل نمو الاقتصاد كان 7 في المئة.
وحين دخلنا مع هذا الخبير الساذج في مناقشة علمية ومنهجية، قلنا له أن النظرية ذاتها التي تتعلق بمعدل النمو باعتباره مؤشراً صادقاً إلى تحسن الأحوال الاقتصادية زائفة في الواقع، لأن التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للأوضاع الاقتصادية في مصر في السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس السابق مبارك يؤكد أنه حدث تحالف غير مشروع بين النخبة السياسية الحاكمة وكبار رجال الأعمال أدى إلى عملية فساد كبرى تم في سياقها نهب أراضي الدولة المصرية وبيعها بأثمان بخسة لكبار رجال الأعمال الذين اندفعوا إلى بناء مساكن وفيلات وقصور فاخرة للطبقة البرجوازية العليا، ما أعطى مؤشرات إلى تحسن الأحوال الاقتصادية في المجتمع ككل ولو قمنا بالتحليل الاجتماعي المتعمق للوضع الاجتماعي في مصر قبل ثورة 25 يناير لوصلنا إلى نتيجة مفادها أن هناك انقساماً طبقياً خطيراً بين أهل «المنتجعات» من كبار أعضاء الطبقة البورجوازية التي أثرت باتباع وسائل فاسدة في حلفها مع نخبة الطبقة الحاكمة، وبين أهل «العشوائيات» الذين يعيشون في مستوى بالغ التدني، ما يكشف انعدام مؤشرات جودة الحياة.
ولو تأملنا الشعارات الأساسية التي رفعتها الجماهير الثائرة في ميدان التحرير ابتداءً من 25 يناير حتى سقوط النظام القديم بتنحي الرئيس السابق مبارك عن السلطة تحت تأثير الضغط الجماهيري، لاكتشفنا أنها ثلاثة شعارات أساسية: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
وعفوية هذه الشعارات الجماهيرية تتفق تماماً مع الأهداف الكبرى لما يطلق عليه في العلوم الاجتماعية منذ سنوات «التنمية المستدامة».
والتنمية المستدامة – كما ورد في تعريفها الذي نص عليه أحد التقارير الأساسية للأمم المتحدة – مصطلح جديد في الخطاب السياسي. وتدل على ذلك أهميته في العلوم الاجتماعية المعاصرة، وتبدو هذه الأهمية بالنظر إلى أربعة اعتبارات:
الاعتبار الأول أن التنمية المستدامة مفهوم يقوم على أساس تحديد المشكلات من المنظور الاجتماعي، ولا يركز كما هو سائد في الجدل العالمي المتعلق بمفهوم التغير البيئي الكوني بما يتضمنه ذلك من أزمات الظواهر الإيكولوجية مثل تغير المناخ وتلوث الماء والهواء وتصحر الأرض.
والسؤال هنا هو: كيف تستطيع المجتمعات الحفاظ على الشروط المبدئية للتنمية من أجل أجيال المستقبل؟
ووضع السؤال في هذا الشكل لا يتضمن فقط مسألة الكفاية الاقتصادية، بل أيضاً مسائل أخرى مثل العدالة الاجتماعية وحرية التنظيم السياسي احتراماً لمبدأ التعددية.
والاعتبار الثاني أنه يمكن إدراك التنمية المستدامة باعتبارها مفهوماً مضاداً لمفهوم التحديث Modernisation وهو النموذج الذي ساد في العلوم الاجتماعية منذ عام 1945، والذي بني على أساسه مفهوم سياسات التنمية، وهو النموذج الذي أصبح مجالاً للتساؤل منذ السبعينات على أساس قصوره الشديد لاكتفائه بالتركيز على الجوانب الاقتصادية وأبرز مؤشراتها ارتفاع معدل النمو الاقتصادي، وعدم الاهتمام بالجوانب الاجتماعية في التنمية وأهمها على الإطلاق العدالة في توزيع الدخل بين الطبقات المختلفة.
والاعتبار الثالث أن مؤشرات التنمية قد صممت وما زالت على أساس الافتراض القائل أن التنمية الاجتماعية مساوية للنمو الاقتصادي. وعلى ذلك – كما أشرنا من قبل – اعتبر متوسط الدخل الاقتصادي مقياساً لدرجة تقدم أي مجتمع.
والاعتبار الرابع والأخير أن التنمية المستدامة – بالتعريف الذي قدمناه لها – تتطلب جمع بيانات كافية حول التفاعل بين المجتمع والاقتصاد والسياسة والبيئة.
وقد واجهنا في شكل علمي هذه المشكلات في سياق الدراسات التي نجريها في «المركز العربي للبحوث» بالقاهرة.
فقد لفت نظرنا أن الجماهير وحتى عناصر متعددة من النخبة السياسية والثقافية في مصر تظن وهماً أن ثورة 25 يناير لم تحقق أهدافها لأن هدف العدالة الاجتماعية لم يتحقق بعد، وكأنه يمكن تحقيقها في عام أو عامين أو ثلاثة.
لذلك، وجدنا من الضرورة من باب التنوير العلمي والثقافي رسم خريطة متكاملة للمشكلات المتعددة التي يواجهها المجتمع المصري بعد ثورة يناير، وجدير بمراكز البحوث التونسية أن تقوم بجهد مماثل.
وهذه الخريطة الشاملة تتضمن أولاً حصراً دقيقاً لأبرز المشكلات التي تكشف تخلف أداء المجتمع المصري من كل النواحي من ناحية، وضرورة استخدام أسلوب المؤشرات الاجتماعية من ناحية أخرى للتعبير الدقيق عن خطورة هذه المشكلات.
وإذا عرفنا مثلاً – باستخدام المؤشرات الكمية – أن معدل الأمية في مصر هو 26 في المئة، وأن 26 مليون مصري يقعون تحت خط الفقر، وأن 18 مليون مصري يعيشون في العشوائيات لأدركنا الأهمية القصوى لاستخدامها للدلالة على خطورة تردي الأوضاع والحاجة إلى استراتيجية تنمية متكاملة.
وحين حاولنا حصر المشكلات الرئيسية التي ستحاول هذه الاستراتيجية التصدي لها، اكتشفنا أنها إحدى عشرة مشكلة هي: الأوضاع الراهنة في الاقتصاد، والتعليم والصحة، والإعلام، والثقافة، والممارسة السياسية، والسياسة الخارجية، والمحليات والطاقة، ومشكلات الشباب، والمشكلات الاجتماعية. وفي تقديرنا أن كل مشكلة من هذه المشكلات تستحق دراسة مستقلة.