مع انتهاء الانتخابات البرلمانية وانتخابات «مجلس الخبراء» («المجلس») في إيران في الأسبوع الأخير من شباط/فبراير، لم تكتسِ الانقسامات التقليدية بين الفصائل المختلفة في البلاد أهمية كبرى. وتضم هذه الفصائل المحافظون المتشددون والمحافظون [العمليون] والمعتدلون والإصلاحيون والمتشددون. وأصبحت أسباب التحالف أو التنازع بين هذه المعسكرات أقل وضوحاً، وأخذت معالم الحدود بين الفصائل والجماعات المتنافسة تضيع، إذ لم يعد ممكناً التمييز بينها بسهولة انطلاقاً من أيديولوجيتها أو أجندتها. كما أصبحت مؤسسات الجمهورية الإسلامية في حالة من الضعف، الأمر الذي يضع مهمة صنع القرارات البارزة بين أيدي شخصيات ودوائر نافذة في السلطة، إلا أن هذه الجهات الفاعلة أصبحت تعمل على ما يبدو وفق ذهنية جماعية يتعذر تمييزها بصورة أكثر.
سياسات عديمة الأسس من الناحية الأيديولوجية
أدى نجاح المفاوضات النووية إلى زيادة ملحوظة في الضغوط التي تمارَس على حكومة الرئيس حسن روحاني. وقد تجلت هذه الضغوط بشكل واضح عندما قام «مجلس صيانة الدستور» باستبعاد عدة مرشحين منسوبين إليه وإلى الرئيس السابق أكبر هاشمي رفسنجاني، إذ منعهم حتى من الترشح للانتخابات لأنهم لم يُظهروا ولاءهم المطلق للمرشد الأعلى علي خامنئي. وتشمل هؤلاء الأغلبية الساحقة من المتقدمين للترشيح من «حزب التنمية والاعتدال» التابع لروحاني.
ولكن لا يمكن تصنيف عمليات الاستبعاد هذه ببساطة تحت تسمية “المتشدد مقابل الإصلاحي”. لقد تأسس حزب روحاني عام 2000، غير أنه ما زال يفتقر لأي أيديولوجيا أو أجندة أو شبكة منظمة واضحة. إذا ما أخذنا مثلاً العضوين البارزين في الحزب اللذين ينتميان إلى حكومة روحاني، فإن الناطق باسم الحكومة محمد باقر نوبخت يُعرف بارتباطه الصريح بالمحافظين، فيما يُعرف المستشار الاقتصادي النافذ أكبر تركان بقربه من إصلاحيين بارزين وقد لعب دوراً ناشطاً في حملة الانتخابات الرئاسية الفاشلة لمير حسين موسوي عام 2009.
وقد تسبب الاتفاق النووي بضياع وانقسام في صفوف المعسكر المحافظ أيضاً، ويُعزى ذلك بدرجة كبيرة إلى مواقف خامنئي الغامضة والملتبسة طوال عملية التفاوض. فقد تعرض علي لاريجاني، الناطق باسم «المجلس»، الذي كان يُعتبر شخصية محافظة قوية، لانتقادات حادة من قبل المتشددين نتيجة اصطفافه إلى جانب روحاني فيما يتعلق بالمسألة النووية. وقد عوقب من خلال إزالته من القائمة الأولية للمرشحين المحافظين في مدينة قم، حيث كان يأمل الترشح للانتخابات البرلمانية مجدداً. وهناك مثال آخر وهو كاظم جلالي، زعيم فصيل “المحافظون المتشددون وأتباع الولاية” في «المجلس». فبالرغم من أنه لطالما عُرف كناقد متشدد وغير مساوم لروحاني، أُدرج إسمه على رأس قائمة المرشحين من قبل الجماعات المناصرة لروحاني وقد انتقده نظراؤه المتشددون في الفترة التي سبقت يوم الانتخابات، كل ذلك على خلفية مناصرته الاتفاق النووي. كما تم استبعاد متشددين معروفين آخرين، مما دفع بعض داعميهم إلى تأييد الفصائل “العدوة”، وهي مقاربة قد أربكت المتشددين الآخرين.
وبالتالي، فيما سعت الجماعات المناصرة لروحاني والمعارضة له إلى خلق أقطاب في الانتخابات، لم يتمكن أي جانب من التوصل إلى توافق جدي حول قائمة موحدة من المرشحين، مما زاد من التشتت السياسي. ويكمن أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا الفشل بأنه أصبح بالكاد يمكن تمييز الاختلافات الأيديولوجية بين الفصائل. وفيما يتعلق بالسياسة الإقليمية، يعتبر روحاني نفسه أحد المهندسين الرئيسيين للعقائد الإيرانية القائمة منذ فترة طويلة التي تم تطويرها في “المجلس الأعلى للأمن القومي“، وهي مؤسسة كلفه خامنئي بإنشائها وإدارتها عام 1989. وفي الواقع، كان روحاني ممثل المرشد الأعلى في المجلس حتى عام 2013. وبالمثل، تكاد لا تبرز أي خلافات جدية حول الأهداف الاقتصادية الأساسية للبلاد، ويعود ذلك جزئياً إلى أن خامنئي يزود الفروع الثلاثة للحكومة بالخطة الاقتصادية الكبيرة. على سبيل المثال، لا تشكل سياسة النظام حول الخصخصة والتجارة الدولية موضع خلاف، بل يكمن الخلاف الأساسي بين مختلف الجماعات حول كيفية تنفيذ هذه الأجندة والجهات التي يجب حماية مصالحها أولاً.
لقد عكست الحملة الانتخابية هذا الوضع، إذ كاد لم يبرز أي نقاش حول القضايا البارزة المتعلقة بالسياسة الاقتصادية والسياسة الخارجية. وعوضاً عن ذلك، وجه المرشحون المتنافسون ومؤيدوهم بصراحة، وعلى وجه حق، تهم الفساد لبعضهم البعض. وفي 9 شباط/فبراير، جدد روحاني شكواه من الفساد الممنهج الواسع النطاق وحدد ضمناً «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» بوصفه المصدر الرئيسي للمشكلة، مؤكداً أن عمليات التهريب التي يقوم بها على نطاق واسع تحبط جهود الحكومة بتعزيز الإنتاج المحلي: “عندما تريد الشركات أن تنتج، يمكن لجهاز فاسد، لن أكشف الآن عن اسمه أو آلية عمله، أن يستورد سلعاً مهربة من السوق السوداء، وبالتالي لا تستطيع الشركات أن تنمو”. وفي 16 شباط/فبراير، رد النائب علي رضا زكاني المناهض لروحاني معتبراً أن الرئيس يركز على المحسوبية عوضاً عن المصالح الحقيقية للمواطنين وراحتهم. وقال: “في رأيي، بدلاً من تعقب الفساد والمؤسسات الفاسدة… يجب على رئيسنا أن ينظر إلى أخيه (حسين فريدون). في رأيي، يجب أن ينظر إلى مكتبه الخاص. في رأيي، يجب أن يتنبه إلى وزارة النفط. فأي أوهام ينشرها السيد حسيني وعناصر أخرى مرتبطة [بوزير النفط بيجان] زنغنة، ضمن صفقة عقود النفط الجديدة؟”
وتقوم مقاربة خامنئي تجاه السياسة المحلية بجوهرها على منع الفصائل من تطوير هوية سياسية منسجمة وقوية. ففي خطاب علني أدلى به خامنئي في 24 شباط/فبراير، رفض فكرة انقسام الانتخابات بين الجماعات المؤيدة لروحاني والجماعات المناهضة له، قائلاً: “في إيران الإسلامية، هناك قطبان: الثورة والغطرسة”، وقد فصل ما بين “أولئك الذين لا يؤمنون بمبدأ الثورة أو النظام وأولئك الذين يؤمنون به”. وزعم أن “الدعاية الخارجية” قد اختلقت هذه الثنائية بين المسار المناصر لروحاني والمسار المعارض له: “لا تريد الأمة الإيرانية ‘مجلساً’ مناصراً لـ [روحاني] ولا معارضاً له. إن ما تريده الأمة الإيرانية هو “مجلس” يدرك واجباته… ملتزماً بالدستور والإسلام، شجاعاً وغير خاضع لترهيب أمريكا”. ثم أوضح لماذا يُعتبر استخدام “مصطلحات العدو” خطأً: “منذ اليوم الأول للثورة، ابتكر الأعداء تعابير على غرار ‘معتدل’ و ‘متشدد’… وبرأيهم، كان الإمام [آيه الله روح الله الخميني] أكثر تشدداً من أي شخص آخر في ذلك الوقت. أما اليوم فيعتبرونني الأكثر تشدداً. المعتدل كلمة لطيفة، ولكن الإسلام لا يعتمد هذه اللغة… عندما تستخدم الأطراف الخارجية عبارة ‘متشددين’، فهي تقصد بذلك الأشخاص الصامدين والحاسمين في مقاربتهم الثوروية… أما ‘المعتدلون’ فهم الأشخاص الذين يرضخون لهم… لحسن الحظ، تقر هذه الجهات بنفسها أنه لا يوجد أي معتدل في إيران، بل إن كل شخص هو متشدد. وهذا صحيح”.
وباختصار، أظهرت الانتخابات على ما يبدو أن المفاهيم والفئات القديمة المستخدمة لوصف السياسات الفئوية والحزبية الإيرانية هي أفكار عفا عليها الزمن وأصبحت مضلِلة. ونظراً لعدم وجود خلافات أيديولوجية حادة وحقيقة أن النواة غير المنتخبة للنظام لديها مصلحة في منع تشكيل أحزاب قوية، من غير الواضح ما هي الأسس التي ستُبنى عليها التحالفات والجماعات المستقبلية وإلى أي مدى ستكون مستدامة.
ضعف المؤسسات
كما نوقش في المرصد السياسي 2553 “اختيار المرشد الأعلى المقبل لإيران”، استقطبت انتخابات «مجلس الخبراء» هذا العام اهتماماً غير مسبوق بما أن خامنئي المتقدم في السن قد يتوفى أو يتنحى خلال ولايته التي أمدها ثماني سنوات. ولكن بالرغم من أن الدستور قد اختار «مجلس الخبراء» كالهيئة الوحيدة المخولة تعيين خلفاً له، يمكن أن يكون القرار الفعلي قد اتُخذ مسبقاً من قبل شخصيات ودوائر أخرى نافذة، بما فيها «فيلق الحرس الثوري الإسلامي».
لقد أسست الجمهورية الإسلامية مئات المكاتب السياسية والحكومية الجديدة على مر السنين، إلا أن طبيعتها الثوروية قد ولدت ذهنية ثابتة مناهضة للدستور. لذلك، لا يساهم الدستور إلى حد كبير في فهم طبوغرافيا صناع القرار الأساسيين في الوقت الحاضر. إن الطريقة التي اعتمدها خامنئي لاتخاذ تدابير من شأنها تصفية المرشحين للانتخابات الأخيرة لـ «مجلس الخبراء» هي مؤشر آخر واضح على استخدام المؤسسات بمعظمها كغطاء لتبرير قرارات النظام أو تشريعها. على سبيل المثال، حاول المتحدث باسم «مجلس صيانة الدستور» نجاة الله ابراهيميان مؤخراً التنحي من منصبه إثر نزاع داخلي حول عملية تأهيل المرشحين، إلا أن أمين عام المجلس أحمد جناتي لم يقبل استقالته. وفي 10 شباط/فبراير، أفاد ابراهيميان لوسائل الإعلام الرسمية أن هذه العملية لم تشمل كل عضو في المجلس، ملمحاً إلى أن جناتي كان صانع القرار الأساسي في هذا السياق. وعلى نحو فاضح أكثر، اعترف بأن إجراءات التأهيل القانونية والتنفيذية لم تكن واضحة له أيضاً.
ما الذي سيفعله روحاني تالياً؟
كما هو الحال في أي مؤسسة أخرى في الجمهورية الإسلامية، يُظهر تاريخ «المجلس» أن السلطة لا تنبثق من المراكز والمكاتب الحكومية، بل من الجهات الفاعلة والشبكات الأخرى. ولذلك، حتى ولو زعم عدد كبير من المشرعين المنتخبين مؤخراً بأنهم يدعمون حكومة روحاني، سيفاقم الخلل المؤسساتي من الصعوبات التي يواجهها هذا الأخير في تغيير بعض السياسات المحلية. وقد أُحبطت جهود روحاني الرامية إلى مكافحة شبكات الفساد المترسخة، التي توسعت في عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد من أجل تجاوز العقوبات، والتي تعتمد عليها الحكومة اليوم للعمل. كذلك، إن العجز عن الوفاء بالوعود المرتبطة بالقضايا الاجتماعية والسياسية وقضايا حقوق الإنسان زاد من ضعف روحاني. وما زالت حكومته تحاول تغيير التوقعات العامة بأن الاتفاق النووي سيكون له أثر جذري ومباشر وسريع على الظروف المعيشية اليومية. ووفقاً لذلك، فبغض النظر عن الفصيل المناصر لروحاني الذي سيبرز في «المجلس» المقبل، سيواجه هذا الفصيل مشاكل كبيرة فيما يتعلق بإبعاد روحاني عن التحديات التي قد تطرأ في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2017.
مهدي خلجي
معهد واشنطن