ليست المرة الأولى، فلطالما وقف زعماء لا يجرؤون على التصديق، فوق أنقاض بلدان هدمتها الرعونة، للإعلان عن انتصارات وإنجازات ومعارك كبرى في زمن الهزائم والانكسارات. وفي العراق يفقد المشهد قدرته على إثارة السخرية المريرة من فرط تكراره.
الزعيم رفع قبل أكثر من عقد مسدسه وهتف للأميركيين :»يردح حيل الما شايفهة/ ستذوقون المرارة»، وها هم بعد كل هذه السنوات ورثة كرسيه يرددون الهتاف نفسه، مع أننا وحدنا، أبناء الأرض المالحة، من تذوقنا في كل مرة طعم دمنا ومرارة قيح جروحنا.
لا يصدق زعماء الطوائف وقادة العملية السياسية في العراق، أن تلك العملية التي بدأت عام 2003 انتهت إلى فشل حقيقي يكاد يشطب البلد من الخريطة، وأن المطلوب اليوم خطوات جريئة وحاسمة تتضمن إعادة توصيف العراق على أسس وقوانين وقواعد ووجوه مختلفة عن تلك التي أنتجت كل هذا الفشل.
قبل يومين، وقف مقتدى الصدر على أسوار المنطقة الخضراء. كان يوماً مشهوداً حقاً، لكنه لم يكن يوماً صدرياً كما يراد توصيفه. فـ «السيد» سبق وأن دعا أنصاره للتظاهر مراراً وتكراراً طوال السنوات الماضية، ولم يحتشد ربع العدد الذي وقف في ساحة التحرير وعند بوابات «الخضراء». الفرق أن الجمهور العراقي بات يدرك ويلمس ويعيش حقيقة وفاة تجربة 2003 سريرياً، وهو غاضب وناقم على كل المجتمع السياسي الذي أنتج الانهيار الأمني ولحظة «داعش» والتقسيم، والانهيار الاقتصادي ولحظة الفساد والارتهان للخارج، بصرف النظر عن مستويات المسؤولية، وحقيقة أن ثمة مخلصين عملوا بحسن نية وبأهداف سامية.
أدرك الصدر هذه الحقيقة، وهو الذي يمكن وصفه بـ «ابن حصار التسعينات». شعر أن الانغلاق السياسي في العراق لم يعد ينفع معه أي شعار، وأن مستوى الغضب تجاوز إمكان استنهاض مخاوف الطوائف والاثنيات. تذكر عام 2003 أيضاً، كان اليأس والإحباط والغضب تستحكم بالذات العراقية، وعلم أن «داعش» ليس أكثر من نتيجة ومقدمة، وأن احتلالاً أو احتلالات جديدة ستكون حتمية إذا لم يُترجم الغضب إلى فعل ملموس، يطيح مرحلة ويعلن أخرى.
استندت الطبقة السياسية العراقية طوال السنوات الثلاث عشرة الماضية، إلى فكرة أن المجموعة الاجتماعية الطائفية/ القومية/ الدينية لن تجازف بالتخلي عن رموزها. فرحيل الزعيم أو تواريه أو غيابه عن المشهد السياسي، يطعن في صميم وجود الطائفة، وعلى ذلك تمت تنمية الإحساس العام بأن تولي شيعي لوزارة سيعني بالضرورة أن الوزارة ستخدم الشيعة فقط، وهكذا بالنسبة للسنة والكرد.
لكن الأمر تغيّر تدريجياً، فصارت الوزارة ملكاً صرفاً للحزب داخل الطائفة، وانتهت إلى أن تكون ملكاً لوزير داخل حزبه.
يحاجّ بعض الحزبيين في العراق، بتماسك أحزابهم، لكن واقع الحال أن الحمى بدأت من تلك الأحزاب نفسها بعد أن رفضت الانسجام مع مبادئ «الديموقراطية» و «التداول السلمي» و «الخضوع لإجراءات التحقق من الفساد» في صميمها، وهي اليوم وعلى امتداد العراق، تعاني تفككاً داخلياً متواصلاً يتماشى مع التفكك في بنى العملية السياسية، وربما ذلك تحديداً ما دفع الصدر إلى التبرؤ من كل السياسيين المرتبطين بتياره، وإعلان إحالتهم إلى المحاكم لتثبت براءتهم أو إدانتهم.
يلوم الوسط السياسي الصدر لأنه يستثمر في غضب المجتمع في لحظة ارتباك اجتماعية واضحة، كما يلومون الأوساط المدنية والطالبية الغاضبة بدورها لإعلانها الشراكة مع تحركه الأخير، لكنه العراقي الوحيد القادر على اتخاذ خطوات جريئة من دون أن يخشى زعل القوى السياسية ومواقف ايران واميركا، ومن دون حتى أن يعير انتباهاً لمواقف الصالونات الإقليمية والدولية المسترخية.
الخبر الجيد، الذي لا يتناسب مع طروحات الزعماء عن تهدم البناء في حال مغادرتهم، أن المجتمع العراقي يجمعه الغضب من الطبقة السياسية التي مثلته أو حاولت تمثيله حقيقة أم زوراً، والغضب يعم الشارع الشيعي والسني والكردي على حد سواء، فيما أمراض الإنكار والانقطاع عن الفهم، تصيب السياسيين الشيعة والسنة والكرد معاً.
إنها لحظة تاريخية فارقة أيها السادة، حيث تثور الجامعات العراقية تباعاً وتفقد الطبقة السياسية شرعيتها الانتخابية أمام شرعية الغضب الشعبي. إنها لحظة يمكن إهدارها، يمكن الاستعانة بالخارج لقمعها، يمكن الاستنجاد بخبراء السلطة لتدجينها، لكنكم ترتكبون الخطأ مرتين لو فعلتم.
واقع الحال، إن خريطة الحلول للوضع العراقي ليست مفتوحة، وهي ليست مثالية أيضاً، وقد لا تقدم سوى الإرضاء النفسي للجمهور الذي يتظاهر مطالباً بالتغيير منذ شهور، وإذا أخفق الصدر في تمرير حله المعلن بتشكيل لجنة مستقلة تختار حكومة مستقلة بعيداً من القوى السياسية، وإذا أخفق رئيس الحكومة حيدر العبادي في تنفيذ وعده بالتغيير، فإن الباب قد يفتح أمام المحتجين المحتشدين على هدف واحد، لإحداث الفارق بالقوة، لتُترك المساحة العراقية أو ما تبقى منها أمام فوضى سيكون مصطلح «الحرب الأهلية» أقل حدة من سواه لوصفها.
تلك ليست وصفة ملائمة لبلد ما زال تنظيم «داعش» يحتل أراضيَ شاسعة منه ويهدد باستمرار بالزحف على أخرى، ولهذا تحديداً يجب على الجميع التحرك بمسؤولية لتحقيق التغيير في البنية والوجوه السياسية، تأسيساً لعملية سياسية جديدة تنقذ العراق من مأزقه.
لن يكون أبو بكر البغدادي متفرجاً على الفوضى لو حدثت، سيعتبرها هدية إضافية للهدايا التي حصل عليها من حقبة حكم نوري المالكي الكارثية. لم يدرك المالكي حينها ماذا قدّم للبغدادي، لكن على حيدر العبادي، وعلى القيادات السياسية والدينية والقبلية في العراق، التحرك لتحقيق معادلة تغيير أكثر أمناً.
وفي آخر القول، لن يكون مقبولاً ولا منطقياً أن يقود رئيسُ حكومةٍ حكومةَ تكنوقراط مستقلين اضطرارية تعبر فوق الأحزاب والطوائف والاثنيات، ويتمسك بدوره بانتمائه الحزبي. سيمنح الفرصة والمبرر للآخرين جميعاً ليرفضوا التغيير، وعليه قبل غيره التقدم بشجاعة لتجميد انتمائه الحزبي على الأقل لما تبقى من ولايته، ويطرح مثالاً جديداً لمعنى «رجل الدولة» المقبل على إنقاذ شعبه لا «رجل الحزب» المكبل بإرادات والتزامات حزبه.
مشرق عباس
صحيفة الحياة اللندنية