نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريراً مفصلاً عن حجم الديون السامة في العالم، مقدرة حجم هذه الديون في الصين وحدها بنحو 5 تريليونات دولار، وهي مشكلة من شأنها إضعاف قوة الاقتصادات الكبرى لسنوات. وقد تطرقت في مقالات سابقة لهذه القضية من أبعاد أخرى حاولنا الإضاءة على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لمثل هذه الديون.
إن الأصول «المسمومة» هي تلك المرهونة لديون متعثرة يصعب سدادها، والتي تضمنتها موازنات البنوك والمؤسسات المالية، والتي فاقت قيمتها كثيراً، وفقاً لكلفتها، قيمتها الحقيقية. بالتالي فإنها تؤثر بشدة في موازنة المؤسسات المالية ومراكزها المالية، كما أنها لم تقتصر على الديون المشكوك فيها من جانب المؤسسات المقرضة للزبائن الأقل جودة فحسب، بل إنها امتدت إلى الكثير من موازنات شركات ومؤسسات لا تتعامل أصلاً مع هذا النوع من المدينين، إنما تحتفظ في محافظها المالية بأسهم وسندات لشركات أو بنوك أخرى تتعامل مباشرة أو غير مباشرة مع هؤلاء المدينين المتعثرين.
ويعتبر إطلاق وصف «الأصول السامة» دلالة على أن هذه الأصول لا تملك قيمة حقيقية في ذاتها ولكن مما تشتقه من غيرها من أخطار يتم تداولها بين المستثمرين، وهذا جعلها تشبه السم الذي ما إن تشبّع الاقتصاد به، حتى بدأت قطاعاته الأخرى تتعطل الواحد تلو الآخر، نظراً إلى الدور الرئيس الذي يلعبه القطاع المالي والمصرفي في الاقتصاد عموماً، باعتباره القلب النابض الذي يعمل على ضخ الأموال إلى بقية القطاعات الاقتصادية.
وفي ما يخص الصين تحديداً، كان المسؤولون فيها يسعون، بهدف تقليص الاعتماد على نموذج الصادرات في مقابل تشجيع نموذج تشجيع الطلب والاستهلاك الداخليين كحافز للنمو، إلى تشجيع المستثمرين في الأسواق الصينية على التوجه نحو أدوات جديدة بعيدة عن الأدوات التقليدية، فازدهرت أدوات الاستثمار في الديون والرهن العقاري. ودعم هذا التوجه ظهور طبقة متوسطة ذات توجهات استهلاكية جديدة تتماهى مع النمط الغربي للاستهلاك والذي يتطلب بنى تحتية عقارية سكنية وترفيهية مكلفة، يلزم لتمويلها إيجاد آليات تمويل جديدة كالرهن العقاري وبيع الديون وغيرها على غرار النمط الأميركي في التمويل، ما نتج منه أيضاً في النهاية فقاعة تمويل عقاري صينية الصنع هذه المرة. وأخذت هذه الفقاعة دورتها الطبيعية منذ بدايات عام 2013، وواضح أنها انفجرت في منتصف حزيران (يونيو) 2015 بسبب تداعيات الموجة الأولى من التخلف عن السداد.
وخلق هذا الوضع وضعاً اقتصادياً جديداً يسير في مسارين مختلفين، أحدهما قائم على الخدمات والاستهلاك، لكنه مثقل بآخر قديم يظهر في اتجاه متباطئ من الصناعات مثل الصلب والتعدين والذي يعاني من عدم الفعالية والطاقة الفائضة. وامتد كلا المسارين في سوق العقارات في البلاد الذي يتميز بالحجم الكبير في المدن المتوسطة والصغيرة الحجم، والطلب القوي في المدن الكبيرة. وما فاقم الوضع، إصرار القيادة الصينية على الالتزام بأهداف النمو المرتفعة والبالغة 7 في المئة والاعتماد على الائتمان لتحقيق الإنتاج المستهدف.
ورأى تقرير لشركة «ستاندرد أند بورز» العالمية إن حجم ديون الشركات العالمية سيبلغ 57.4 تريليون دولار بين عامي 2015 و2019 وإن نحو 37 تريليون دولار من هذا المبلغ ستكون إعادة تمويل لديون قائمة بينما المبلغ المتبقي عبارة عن ديون جديدة. وتأتي الشركات الصينية في طليعة الشركات العالمية التي ستحوز على هذه الديون بحصة 40 في المئة ثم الشركات الأميركية والكندية بـ22.8، فالأوروبية بـ 15.5 في المئة، والبقية تتوزع على مختلف دول العالم.
ليس مقصوداً هنا التقليل من أخطار ديون الشركات العالمية، خصوصاً الديون المسمومة التي تزامن نموها مع تباطؤ الاقتصادي الصيني بخاصة والعالمي في شكل عام، حيث تعرض معظم الشركات العالمية لتراجع الأرباح العام الماضي وأيضاً هذه السنة بسبب تراجع الطلب العالمي على المواد والمنتجات التي تصدرها اقتصادات الدول العالمية، ونلاحظ ذلك واضحاً في سوق النفط.
لكن يجب أن لا ننسى إن الطلب على الديون شكل بحد ذاته خلال السنوات الماضية حافزاً للنمو الاقتصادي ووفر مئات الآلاف من الوظائف، بخاصة إن تلك الديون تم توجيهها إلى الأنشطة الأكثر قابلية للنمو والتعافي، كما ذهب قسم منها لإعادة الهيكلة. في المقابل، كثير من البنوك العالمية استفاد من تقديم تلك التمويلات حيث اعتبرت مصدراً مهماً للتمويل، ما ساعدها في تجاوز حالة التباطؤ والركود في الأرباح والعمليات.
من هذا المنطلق، يجب على الأجهزة المالية والمصرفية العربية المعنية مثل صندوق النقد العربي والمصارف المركزية العربية واتحاد المصارف العربية، العمل معاً وتنسيق الجهود من أجل إيجاد قاعدة بيانات وإحصاءات مماثلة، ونقصد بها حجم الديون وتصنيفاتها لمنطقتنا العربية، ما من شأنه المساهمة في تسليط الضوء على حجم أنشطة الشركات الخاصة في المنطقة، والمساعدة في تكوين قاعدة بيانات مهمة للبنوك العربية لرسم استراتيجيات أعمالها وأنشطتها.
ومن شأن وضع قاعدة البيانات هذه أيضاً وضع الشركات العربية على خريطة أسواق المال العالمية، بخاصة إذا حصلت على تصنيفات ائتمانية جيدة لديونها، بالتالي يسهل دخولها أسواق المال العالمية ومقارنة أوضاعها بقريناتها العالمية. ولا شك في أن ذلك سيساهم في تدفق مزيد من الاستثمارات الدولية للمنطقة العربية من خلال هذه الشركات من جهة، ويدعم عمل المصارف العربية في الدخول في تمويلات عربية عالمية مشتركة لهذه الشركات، من جهة أخرى.