بعد أن حقق حزب العدالة والتنمية انتصارًا في الانتخابات النيابية في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2015 التي نال فيها 49.5% من الأصوات، أثبت عن دوره القيادي في نظامٍ ذي حزبٍ مسيطر على غرار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي يحكم جنوب أفريقيا منذ العام 1994. إلّا أنّ المؤتمر الوطني الأفريقي لا يزال يتمتّع بشعبيةٍ تتخطى 60% من شعب بلاده، خلافًا لحزب العدالة والتنمية الذي لا تتخطى شعبيته نصف الشعب التركي، في حين يعارض النصف الآخر أجندته السياسية بشراسة وتلك الخاصة بزعيمه الرئيس رجب طيب أردوغان.
وفي انقسام الشعب التركي بين مناصرٍ لحزب العدالة والتنمية ومعارضٍ له، قد بدأت الدولة الإسلامية في استغلال هذا الشعب من جهة اليمين، لتقابلها روسيا بالمثل من جهة اليسار. وتشكّل هذه الدينامية تحدّيًا للاستقرار الداخلي التركي وسيتطلّب من الولايات المتحدة الأمريكية اتخاذ خطواتٍ ذكية وحذرة في صنع مواقفها السياسية.
لمحة تاريخية: ازدهار حزب العدالة والتنمية
انتقلت تركيا إلى النظام الديمقراطي المتعدد الأحزاب من خلال انتخاباتٍ حرة وعادلة في العام 1950، وكان يضم هذا النظام حتى العقد الأخير أربعة أركان سياسية أساسية وهي: حزب اليمين المعتدل وغالبًا ما يكون في الحكم، وحزبٌ قومي من اليسار المعتدل وغالبًا ما يكون في المعارضة، وحزبان أصغر حجمًا يمثّلان الأطراف القومية المحافِظة والإسلامية، وغالبًا ما يتحالفان مع كتلة اليمين المعتدل.
وفي هذا الاصطفاف، لطالما ناصرت كتلة اليمين المعتدل اقتصاد السوق الحر والسياسات الخارجية المؤيدة للغرب والفصل المعتدل للدين عن السياسة. أمّا كتلة اليسار المعتدل المتمثلة في تركيا العلمانية التي بناها مصطفى كمال أتاتورك، فلطالما دافعت عن الفصل القاطع بين الدين والسياسة، وعن سياسة عدم التدخل في شؤون الشرق الأوسط.
أمّا بالنسبة للكتل الأصغر، فيُعتبر القوميون المحافظون من مناصري الفصل المعتدل بين الدين والسياسة. وفي الحرب الباردة، تحالفوا مع الولايات المتحدة ضد عدو الأتراك التاريخي، روسيا. إلّا أنّ القوميين المحافظين، ومنذ انتهاء الحرب الباردة، باتوا من المعادين العلنيين للولايات المتحدة والغرب.
وروّجت الكتلة الإسلامية من جهتها إلى السياسات الخارجية المعادية للولايات المتحدة اعتبارًا منها أنه على تركيا أن تكون قوّةً مسلمةً مستقلةً تجذب القوة من أصولها العثمانية عوضًا عن الانطواء أمام الغرب. أمّا من الجانب السياسي، فلطالما سعى الإسلاميون إلى دورٍ أوسع للمسلمين السنّة في السياسة والسياسات الخارجية والتعليم.
وبين العامين 2001 و2002، انهارت أحزاب اليمين المعتدل وسط أسوأ أزمةٍ اقتصادية شهدتها البلاد في التاريخ المعاصر. ونشأ على أثرها حزب العدالة والتنمية الذي تمكّن من جمع أشلاء الكتلة الإسلامية والكتل الأكبر التابعة لليمين المعتدل. ووصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بحصوله على 34.3% من الأصوات في العام 2002، ليجمع بذلك ضعف الأصوات التي نالها سلفه الإسلامي حزب الرفاه.
لفهم النجاح المستمر لحزب العدالة والتنمية
يساعد هذا الاصطفاف بين اليمين المعتدل والإسلاميين على فهم القوّة المستمرة لـ حزب العدالة والتنمية في الانتخابات. فقد فاز أردوغان في أربعة انتخاباتٍ متتالية منذ العام 2002 بالأسلوب التالي: في ظلّ غياب حزبٍ يميني معتدل قادر على منافسة حزب العدالة والتنمية، يميل الناخبون الأتراك المناصرون لليمين المعتدل إلى اليمين، وتحديدًا إلى حزب العدالة والتنمية. ففي العام 2007 مثلًا، ارتفعت أصوات حزب العدالة والتنمية إلى 46.6%، وفي العام 2011 إلى 49.8%، لتثبت على نسبة 49.5% في الانتخابات المبكرة التي سبق ذكرها، باستثناء انخفاضٍ إلى 40.9% في 7 حزيران/يونيو. وعلى افتراض عدم وجود حزبٍ يميني معتدل قادر على منافسة حزب العدالة والتنمية، سوف يبقى هذا الأخير المتباري الأهم على الساحة السياسية.
وقد ساهمت كل من التنمية وحسن الحوكمة في الحفاظ على نجاح حزب العدالة والتنمية المتواصل. إن إحدى الدلائل على نجاح تركيا هي انخفاض نسبة وفيات الأطفال. فعندما استلم الحزب الحكم في العام 2002، كانت نسبة الوفيات 28 من أصل 1000، على غرار سوريا ما قبل الحرب. أمّا اليوم، فقد أصبحت نسبة وفيات الأطفال 12 من أصل 1000، على غرار إسبانيا. ويستمر حزب العدالة والتنمية ومؤسسه أردوغان في الفوز في الانتخابات لأن الاقتصاد في نمو مستمر وكذلك مستوى المعيشة لدى الشعب التركي. وعلى الرغم من تباطؤ الاقتصاد التركي البسيط في الآونة الأخيرة، لا يزال الشعب التركي يتمتع بخدماتٍ صحيةٍ وتعليمية أفضل من تلك التي سبقت حكم حزب العدالة والتنمية، ما يسهم في الحفاظ على شعبية الحزب.
حزب العدالة والتنمية في وجه الأحزاب المسيطرة في الخارج
وعند انتهاء هذه المدة البرلمانية المؤلفة من أربع سنوات، سيكون حزب العدالة والتنمية قد حكم تركيا لمدة 17 عامًا، وهي أطول مدة حكم لحزبٍ ديمقراطي منتخَب في تاريخ البلاد. وتكون قيادة أردوغان – أوّلًا كرئيس وزراء واليوم كرئيسٍ للجمهورية- قد تخطّت قيادة أتاتورك، الرئيس المؤسس لتركيا الذي حكم البلاد من العام 1923 حتى العام 1938. والأهمّ أنّ الانتصار الأخير لحزب العدالة والتنمية خير دليلٍ على قوّة نظام السيطرة الحزبية في تركيا، على غرار نظام المؤتمر الوطني الأفريقي كما سبق وذكرنا، وحزب الكومينتانغ في تايوان الذي حكم طوال فترة الحرب الباردة، والحزب الثوري المؤسساتي الذي حكم المكسيك من العشرينات حتى الثمانينات. وقد وصلت كل من هذه الأحزاب الثلاثة إلى السلطة إثر تنمياتٍ ثورية التي حصدت لهم شعبيةً هائلة. وروّجت هذه الأحزاب أيضًا لرؤيتها التحويلية لمجتمعاتها، معتبرةً أنّ ولايتها الشعبية المستمرة تدعو إلى حكم الأكثرية.
وعلى الرغم من الاختلافات السياسية، يمكن تصنيف المؤتمر الوطني الأفريقي وحزب الكومينتانغ والحزب الثوري المؤسساتي كأحزابٍ مسيطرة تملك الغالبية الشعبية في مجتمعاتٍ ما بعد الحرب. فمنذ الوصول إلى الحكم عام 2002، عزل حزب العدالة والتنمية المؤسسات الكمالية عن حكم الدولة، مبتعدًا عن أوروبا ومسقطًا الحواجز بين الدين والتعليم والسياسة التي كان قد بناها أتاتورك في العشرينات والثلاثينات. وفي كانون الأول/ديسمبر 2014، أصدر المجلس التركي للتعليم العالي، وهو جهة تابعة للدولة، اقتراحات سياسةٍ تطرح إعطاء الدروس في تعليم الإسلام السني في المدارس الرسمية منذ عمر الست سنوات. ويعكس هذا النوع من الاقتراحات الغرائز الثورية لدى حزب العدالة والتنمية داخل قالب حزبٍ مسيطرٍ حسب نظام الأكثرية. ولعلّ أفضل وصفٍ لحكم حزب العدالة والتنمية هو بالثورة البطيئة والصامتة والنامية بشكلٍ مستمر.
إلّا أنّ حالة تركيا تختلف عن الأمثلة الأخرى للأحزاب المسيطرة في أمرٍ واحدٍ وأساسي. حازت الحركات في جنوب أفريقيا والمكسيك وتايوان عل 60% من الأصوات على الأقل، وغالبًا ما تكون الأرقام أعلى بكثير. فضلًا عن أنّ الانتخابات لم تكن حرة وعادلة دائمًا، أقلّه في المثال الثالث. أمّا بالنسبة للأرقام، فلطالما حاز المؤتمر الوطني الأفريقي على 60 إلى 70 في المئة من الأصوات منذ العام 1994. أمّا والحزب الثوري المؤسساتي فجمع باستمرار من 70 إلى 98 في المئة من الأصوات بين العامين 1929 و1982، في حين جذب حزب الكومينتانغ 60 إلى 90 في المئة من الأصوات بين العامين 1969 و1989.
لم تحقَّق هذه الأرقام الهائلة في تركيا، حيث يُعتبر أنّ الانتخاب يكون حرًّا وعادلًا بشكلٍ عام. وجمع حزب العدالة والتنمية، كما سبق وذكرنا، بين 34.3 و49.8% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأربعة التي أجريت من العام 2002 إلى العام 2015. وتعكس هذه الأرقام الانقسام في تركيا بين مساندي الحزب ومعارضيه. ونظرًا لسيطرة الحزب الانتخابية المحدودة مقارنةً مع المؤتمر الوطني الأفريقي وحزب الكومينتانغ والحزب الثوري المؤسساتي، قد يُعتبر حزب العدالة والتنمية أشبه بأحزابٍ مسيطرة أخرى في مجتمعاتٍ “منقسمة” أخرى حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي السويدي والحزب الليبرالي الديمقراطي الياباني. ففي السويد، حافظ حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي السويدي، كونه الحزب المسيطر من العام 1932 حتى العام 1973 على نسبةٍ تتراوح بين 30 و50% من الأصوات ووصل إلى نسبة 53.8% في العام 1940. كذلك حافظ الحزب الليبرالي الديمقراطي الياباني على دعمٍ تمثّل بنسبة 36 إلى 50% من الأصوات بين العامين 1958 و1993 ووصل إلى قمّة شعبيته في العام 1963 عندما نال 56% من الأصوات. وحكم كلّ من الحزبين على أساس بناء التوافق، مع الأخذ بعين الاعتبار الانقسام الجاري في مجتمعيهما. إلّا أنّ حزب العدالة والتنمية يميل إلى استبعاد التوافق من أجل فرض قوّة حكم الأكثرية، على الرغم من أنّه يعمل في مجتمعٍ منقسمٍ مشابه.
جهود الدولة الإسلامية وروسيا في المناورة
نظرًا إلى علاقة تركيا المتوترة بالدولة الإسلامية وروسيا، تعرِّض البنية السياسية التركية، التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية، البلاد إلى المزيد من الانقسام واحتمال العنف بين الصفوف المساندة والمعارِضة للحزب، أي بين فريقين مدعومين من الدولة الإسلامية وروسيا تباعًا.
ففي الواقع، قد بدأت الدولة الإسلامية باستغلال هذا الانقسام عبر أربع عمليات انتحارية: في 5 حزيران/يونيو 2015 في ديار بكر؛ في 20 تموز/يوليو 2015 في سوروج؛ في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2015 في أنقرة؛ وأحدثها في 12 كانون الثاني/يناير 2016 في ساحة السلطان أحمد في إسطنبول. وفي العمليات الثلاثة الأولى، استهدفت الدولة الإسلامية تحركاتٍ معارضة من تنظيم الأكراد المعارضين للحكومة وناشطي السلام واليساريين والعلويين. وفي هذه العمليات التي أدت إلى مقتل 139 شخصًا وجرح أكثر من 600، أظهرت الدولة الإسلامية تركيزًا استراتيجيًا على التحركات والمواطنين المعارضين للنظام بغية إلحاق الضرر بالمعارضة. وكان 86 شخصًا من قتلى عملية أنقرة الـ 102 من الطائفة العلوية التي تشكّل 10 إلى 15% من الشعب التركي بكامله. حتى في الهجوم الانتحاري في ساحة السلطان أحمد، أظهرت الدولة الإسلامية وعيًا استراتيجيًا يستهدف منطقةً – المدينة القديمة- تعجّ بالمساجد والمحالّ التجارية والمطاعم، لكن يقلّ فيها الأتراك ويكثر السّيّاح. ففي الواقع كان الضحايا الـ 11 في عملية كانون الثاني/يناير من سيّاحًا من الجنسية الألمانية.
وإذا كانت استراتيجية الدولة الإسلامية تستهدف معارضي حزب العدالة والتنمية بحقّ، فقد تشهد تركيا في المستقبل عملياتٍ انتحارية أخرى ضد الأجانب والعلويين والأكراد واليساريين والاشتراكيين والليبراليين. وقد يعزز هذا الانتقاء النظر إلى التنظيم على أنه يعفي مساندي حزب العدالة والتنمية الذي يشكل نصف الشعب التركي، وبالتالي الحكومة التركية. ومن تداعيات هذه الظاهرة تأجيج الغضب في صفوف الأتراك المعارضين من حزب العدالة والتنمية وسياساته وازدياد حدّة المحاولات لإظهار ضعفهم وتفاقُم الانقسام المحلي.
وحيث أنّ الدولة الإسلامية قادرة على الاستمرار في شنّ الهجمات على الأهداف المعارضة، سوف يقوم الروس بالعكس- واضعين تركيزهم علنًا على أعضاء حزب العدالة والتنمية وممتلكاتهم. وقد كانت هذه سياسة الكرملين منذ إطلاق النار الذي أسقط طائرةً روسية تحلّق في المجال الجوي التركي في 24 تشرين الثاني/نوفمبر. ففي 28 تشرين الثاني/نوفمبر على سبيل المثال، عزمت روسيا انخراط ابن أردوغان في تجارة النفط مع الدولة الإسلامية. وشكّلت هذه الاتهامات غصنًا تعلّقت به الصفوف المعارضة واعتبرتها إثبات. ولا شكّ في أنّ تعاطف المعارضة التركية مع روسيا- ومعاداتها لحكومة أردوغان- واضحة، على سبيل المثال في الاتهام الذي وجهه النائب في حزب الشعب الجمهوري المائل إلى اليسار، والذي قال فيه إنّ حزب العدالة والتنمية يساعد الدولة الإسلامية في إدخال الأسلحة الكيميائية إلى سوريا. وقام إيرديم بهذا التصريح في 14 كانون الأول/ديسمبر في مقابلةٍ مع وكالة الأنباء التابعة للحكومة الروسية “روسيا اليوم“.
وفي الوقت عينه، مدّت روسيا يد المساعدة للمعارضة الكردية في تركيا، إذ دعت صلاح الدين دميرطاش، قائد حزب الشعوب الديمقراطي الداعم للأكراد، إلى موسكو في 23 كانون الأول/ديسمبر. وخلال زيارة دميرطاش لروسيا، انتقد هذا الأخير الحكومة التركية لإطلاقها النار على الطائرة الروسية. أمّا من الجهة السورية، فقد بدأت روسيا بتأمين الأسلحة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهو حزبٌ حليفٌ لحزب العمال الكردستاني المسيطر على الأراضي السورية طوال الحدود التركية، ما يشكّل تهديدًا للسلطات التركية.
مكان واشنطن في هذه المعادلة
ويعود بنا الانقسام التركي الحالي بين يمينٍ ويسار إلى أحداثٍ مروّعة من السبعينات، عندما اندلعت حربٌ أهلية بين اليسار المتطرف المدعوم من الاتحاد السوفيتي والفصائل القومية التابعة لجناح اليمين المتطرف، أودت بحياة الآلاف في الشوارع. ومع استهداف الدولة الإسلامية للأتراك المعارضين ودعم روسيا لهم، قد تؤدي جهود الدولة الإسلامية وروسيا لاستغلال الانقسام التركي إلى زعزعة السلم الأهلي، وهذه المرة بين يمينٍ متطرفٍ يغلب فيه الإسلاميون ويتّسم براديكالية الدولة الإسلامية من جهة، ويسارٍ متطرّفٍ يسيطر عليه حزب العمال الكردستاني وحلفائه- حتى لو لم يبلغ التوتر مستويات السبعينات.
أمّا من منظار حزب العدالة والتنمية للسياسة الخارجية، وعلى الرغم من التحديات المزدوجة التي يفرضها نظام الأسد- والتي تسعى أنقرة إلى إبعادها منذ العام 2012- ومن الوجود الشرس للدولة الإسلامية طوال حدودها مع سوريا والعراق، لا يزال الحزب يرى تركيا كقوّةٍ إقليميةٍ مستقيلة، تُوائم الغرب أو تخاصمه بحسب الحاجة.
ففي الواقع، تركيا قادرة على دمج ميولها اليميني المتوسط إلى التعاون مع الغرب بالمقاومة الإسلامية لهذا التعاون. فتشكّل تركيا حليفًا أساسيًا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، خصوصًا في سياق حرب الولايات المتحدة على الدولة الإسلامية. لذلك يمثّل الوضع السياسي الحالي في تركيا معضلةً حقيقية لواشنطن. ومع انقسام المجتمع التركي من المنتصف، سوف تظهر توتّراتٍ جديدة على الرغم من ثبات نظام السيطرة الحزبية. ومن هذا المنطلق، يتعين على الولايات المتحدة التركيز على التخفيف من هذه التوترات من أجل المساهمة في تعزيز الاستقرار في دولةٍ حليفةٍ لا غنى عنها.
سونر جاغايتاي
معهد واشنطن