ساهمت مجموعة من الظروف في تقليص دور الجيش في الحياة السياسية التركية، منها داخلية رأت ضرورة بقاء الجيش في ثكناته والاكتفاء بدوره كحامٍ للوطن والحدود بعد أن شهدت سنوات حكمه للبلاد عدم استقرار سياسي واقتصادي ومجموعة متغيرات منها عدم استمرار التأييد الأمريكي لدور الجيش سياسيا، ورغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي وضع شروطا عزّزت من فصل الجيش عن مؤسسات الدولة المدنية.
اضطرابات سياسية
شهدت تركيا الحديثة بعد وفاة مؤسسها مصطفى أتاتورك 1938عدم استقرار سياسي استمر لعدة عقود نتيجة رغبة الجيش بإبقاء سيطرته على مؤسسة الحكم، واتضح ذلك بالانقلابات التي قادها لإعادة مقاليد الأمور إلى سيطرته من خلال التذرّع بالخروج عن خط العلمانية أو التوجه الإسلامي لبعض الحكومات.
فما إن ألمح الرئيس التركي عصمت إينونو في عام 1945 إلى ضرورة وجود حزب سياسي معارض بغية تفعيل الحياة السياسية في البلاد ولغرض تنفيس الاحتقان السياسي، حتى بدأت تظهر بوادر رغبة داخلية بتغيير واقع الحياة السياسية، ظهرت على إثرها توجّهات معارضة من قلب حزب الشعب الجمهوري الحاكم، قادها أربعة نواب هم، جلال بايار، عدنان مندريس، فؤاد كوبرولو، رفيق كوارلتان، الذين أسّسوا عام 1946 الحزب الديموقراطي، الذي استقطب أعدادا متزايدة من الجماهير، وحظي بشعبية كبيرة في أوساط النخب التركية، وأصبح يمثل رغبة شعبية في التغيير. وفاز هذا الحزب عام 1950 في الانتخابات النيابية فوزا ساحقا، كان تحرّك رئيس الوزراء المنتخب حديثا عدنان مندريس مغضبا لقيادات الجيش التركي، فقد حاول مندريس وضع حد للنخب والقيادات التقليدية في البلاد وما تمثّله من توجهات فكرية وارتباطات بالعسكر، كلّ هذا جعل الجيش يتحرّك ليضع حدّا لعشر سنوات من الديمقراطية التركية، في محاولة منه لإعادة خلق الظروف التي كانت قائمة قبل عام 1950. والعودة لتبني الاتجاه الأتاتوركي العسكري القمعي في البلاد، حتى أزاحوا مندريس وحكومته وقاموا بإعدامه مع رفاقه.
استمر تدخّل الجيش في الشؤون السياسية لتركيا بعد ذلك، تارة بالانقلاب على الحكومات التي لا تسير وفق ما يرتضيه، وأخرى بالضغط على الحكومات لتقديم الاستقالة.
في المرحلة الممتدة من 1971-1980 تصاعدت في تركيا مظاهر عدم الاستقرار وتصاعد العنف السياسي، وانهارت قيمة العملة وارتفعت الأسعار وأصبح الاقتصاد التركي في مهب الريح، تشكّلت حينها حكومات متعدّدة سقطت سريعا أمام سيطرة الجيش وعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد. حتى وصلت تركيا إلى انقلاب عام 1980 بقيادة الجنرال كنعان إيفرين الذي كرّس مرة أخرى سيطرة مجلس الأمن الوطني، الذي كان يهيمن عليه الجيش، على مقاليد الدولة من خلال دستور عام 1982 القائم حتى اليوم.
بداية التغيّر
ويمكن القول إن عجلة التعديلات الدستورية التي تخص تخفيف هيمنة العسكر انطلقت عام 2001 بتوصيات من الاتحاد الأوروبي الذي انتقد دور الجيش في الحياة السياسية وعلى إثرها تم تعديل 37 مادة من الدستور من ضمنها المادة 118 الخاصة بمجلس الأمن الوطني، حيث أدرجت عضوية وزير العدل ونائبي رئيس الوزراء، وكان هذا التعديل الوحيد الذي يخص مجلس الأمن القومي الذي حد من النفوذ العسكري، وأصبحت المقاعد المدنية داخل المجلس أكثر من المقاعد العسكرية.
وتم تعديل المادة 15 بإلغاء البند الخاص بوجوب تعيين الأمين العام لمجلس الأمن القومي من بين أعضاء القوات المسلحة، والمادة الرابعة التي كانت تكلّف المجلس وأمانته بمهام المتابعة وتقييم أوضاع الدولة انطلاقا من أن المجلس هو الحامي للنظام الدستوري، لتكون مهمته رسم وتطبيق سياسة الأمن الوطني، وألا يقوم بأي مهام إلا ما أسند له من مجلس الوزراء.
حدث بعد ذلك احتكاك بين الجيش والحكومة التركية في 2007، ويكاد هذا الاحتكاك يكون نقطة تحوّل في ترسيخ السلطة المدنية وإضعاف تدخّل الجيش في الحياة السياسية.
وبعد أن أعلن حزب العدالة والتنمية عن ترشيحه عبد الله غول لمنصب رئيس الجمهورية، قامت رئاسة الأركان بنشر بيان أبدت فيه تخوّفها من مصير الجمهورية العلماني، ورفعت رئاسة هيئة الأركان إنذارا لها على الموقع، وهو ما وصف بمحاولة للانقلاب على حكومة أردوغان، لتقوم الحكومة فيما بعد بإصدار قرار يمنع المؤسسة العسكرية من الإدلاء بأي تصريحات تتعلق بالشأن السياسي إلا تحت وصاية مدنية.
ومن النقاط المفصلية في تراجع وضع الجيش سياسيا، وجود بعض القيادات العسكرية الرافضة لتكرار سيناريو الانقلابات العسكرية، فمثلا خلال عامي 2004 و 2005، اكتُشفت محاولتا انقلاب على حكومة أردوغان من قِبل مجموعة من الضباط يطلق عليهم اسم “الضباط الشبان”. وقد علم بها رئيس الأركان حلمي إسكوك المعروف بأنه من أكثر رؤساء الأركان الأتراك ديمقراطية وانفتاحا، وقام بمنع حصولها.
تم بعدها إحباط محاولات أخرى للانقلاب عن طريق ضبط ومحاكمة تنظيم ما يسمى بـ “أرغينيكون” عام 2007 وهو تنظيم كان يستهدف جميع الفئات التي تعارض الدولة العلمانية في تركيا، أو تعارض سيطرة العسكريين على السلطة، وبالتالي تعارض علاقات تركيا مع الغرب، وعلاقات تركيا مع إسرائيل. ومن الشخصيات البارزة التي حوكمت على إثر هذه القضية رئيس أركان الجيش السابق ايلكير باشبو الذي حُكِم عليه بالمؤبد، إضافة إلى قائد الجيش الأول السابق حسن ايغسيز وقائد الدرك السابق شينير اراويغور.
رغبة شعبية بالحياة المدنية
لقد تبلورت رغبة شعبية داخلية بحياة مدنية مستقرة سياسيا واقتصاديا قدّمها لهم حزب العدالة والتنمية خلال سنوات حكمه الأربعة عشر وانعكست في فوز الحزب بأربعة انتخابات متتالية. وتمكّن هذا الحزب من استيعاب الحياة السياسية في تركيا من خلال محاكاة الروح الإسلامية لغالبية الشعب التركي مع الحفاظ على حدود العلمانية المترسّخة في الدستور التركي وفي عقلية المؤسسة العسكرية.
كما أن تراجع القوى السياسية المتحالفة مع المؤسسة العسكرية، مثل حزب الشعب الجمهوري والحزب القومي، المتمثل بانحسار تمثيلهم في البرلمان ساهم بشكل كبير في تقليص دور الجيش سياسيا.
وخارجيا ساهمت رغبة الولايات المتحدة بالتعامل مع دولة مستقرة تساهم عمليا في الموازنة الإقليمية، إضافة إلى الرغبة التركية بعضوية الاتحاد الأوروبي في إعادة صياغة شكل المؤسّسة التي تحكم تركيا.
مظفر مؤيد العاني
موقع تركيا بوست