توصل الاتحاد الأوروبي وتركيا إلى اتفاق مبدئي، في قمتهما يوم الاثنين الماضي، حول اللاجئين السوريين، خصوصاً العالقين منهم في اليونان. ويتمحور الاتفاق، خصوصاً، على قبول تركيا عودة اللاجئين السوريين من اليونان، والذين وصلوا إليه من الأراضي التركية، على أن يقدم الاتحاد الأوروبي مقابلاً مالياً لكل مهاجرٍ تسترجعه تركيا، وأن يشرع في تنظيم استقبال طلبات لجوء هؤلاء، انطلاقاً من الأراضي التركية، بدل دراسة تلك الطلبات بعد وصولهم إلى الأراضي الأوروبية. فضلاً عن مساعدةٍ ماليةٍ، تقدر بثلاثة مليارات يورو، أقرّها الاتحاد الأوروبي في نوفمبر/ تشرين الثاني، لكن لم تصل إلى تركيا بعد. وتطالب هذه الأخيرة بمضاعفتها.
ويرمي الأوروبيون من خلال هذا الحل إلى إقناع اللاجئين السوريين بأن طلباتهم لن تدرس، إن هم قدّموها، انطلاقاً من بلد عضو في الاتحاد. وبالتالي، يخفّفون من ضغط تدفقات اللاجئين، وإيجاد حل، ولو مؤقتاً، للضغط الكبير الذي تعاني منه اليونان، وربما لإنقاذ البيت الأوروبي من تصدّعات في مجال الهجرة واللجوء، بعد توالي القرارات الأحادية الجانب التي تتخذها دول أوروبية، ما حوّل اليونان، في الأسابيع الأخيرة، إلى أكبر مركز إيواء في أوروبا. وهذا هو الهدف الأوروبي القريب المدى، لأنه يسعى إلى معالجة قضية آنية، أي تخفيف الضغط على اليونان، وتجنب التصعيد الأوروبي البيني بشأن اللاجئين. أما الهدف المتوسط والبعيد المدى، فهو يقوم على فرضيةٍ صحيحةٍ فحواها أنه، في حال التوصل إلى تسوية سياسية في سورية، فإن احتمالات عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم قوية جداً، بحكم الجوار الذي يسهّل رحيلهم من تركيا، بينما عودة هؤلاء الذين يكون قد استقرّوا في أوروبا ضعيفة للغاية، لأنهم سيكونون في وضع أحسن من الذي سيحظون به عند عودتهم إلى بلدٍ منهار على آخره، وخرج للتو من حربٍ أهلية. ومن ثم، فإن أهمية البديل التركي لا تفسر فقط بإجراءات تكتيكيةٍ، بل باستراتيجيةٍ بعيدة المدى، تخص سورية ما بعد الحرب.
من الواضح أن هذا الاتفاق الذي سيفصل فيه، خلال الأيام العشر المقبلة، محل مقايضة ومساومة بين الطرفين. فللطرف الأوروبي جملة من أوراق الضغط على تركيا، تتأرجح بين الجرزة والعصا، وهي: مسألة حقوق الإنسان في تركيا؛ المسألة الكردية، ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، قضية منح التأشيرات للأتراك… يمكن للاتحاد الأوروبي أن يوظف كل هذه الملفات أوراق ضغط على تركيا، لترضخ لإرادته، كما قد يستخدمها أوراقاً لإرضائها، والنتيجة، في نهاية المطاف، هي نفسها. وبالتالي، ما تحدد منطق العصا أو الجزرة طبيعة القدرة التفاوضية لتركيا.
أما تركيا فبيدها ورقتان أساسيتان. أولهما إيواؤها أزيد من مليونين ونضف مليون من اللاجئين
السوريين، متقدمة بذلك على كل بلدان المنطقة (أكثر من مليون بقليل في لبنان، أزيد من نصف مليون في الأردن، ربع مليون في العراق، أقل من 20 ألفاً في مصر، وأقل من ثلاثين ألفاً في دول المغرب العربي)، ناهيك عن دول الاتحاد الأوروبي الذي يستقبل نسبة أقل بثماني مرات من نسبة هؤلاء في تركيا. ثانيهما كونها فاعلاً أساسياً في أي تسويةٍ في سورية، بحكم الجوار وإيوائها العدد الهائل من اللاجئين السوريين. تمنح الورقتان قوةً تفاوضيةً لتركيا أمام الاتحاد الأوروبي، ما يسمح لها بالضغط على الأخير، حتى يمنح لها مزيداً من المساعدات، ويغض البصر عن قضية حقوق الإنسان، لاسيما في زمن التوجهات التسلطية للحكومة التركية الحالية، وكذلك عن حربها المفتوحة على أكرادها، وبالتالي عن توظيفها الحرب السورية لخدمة مآرب سياسية محلية، والنزول عند رغبتها في مسألة التأشيرات (مزيد من التأشيرات للرعايا الأتراك الذين يريدون السفر إلى الاتحاد الأوروبي)…
لكن، هناك نقاط ضعف في الموقف التركي، لأن بعض هذه العناصر قد يستغلها الاتحاد الأوروبي، لتحييد المطالب التركية، فقد يثير قضية حقوق الإنسان والحريات ليس فقط للضغط عليها، بل لتحييد بعض مطالبها بشكل أو بآخر. فقد يستخدم مسألة حقوق الإنسان حجة، وهي ليست واهيةً، بل حقيقية، لتحييد طلب تركيا تسريع ملف المفاوضات حول انضمامها إلى الاتحاد. وبالتالي، يقصي الأخير ملف الانضمام من المقايضة بدعوى حقوق الإنسان. كما أن الاتحاد الأوروبي ممتعضٌ من سلوك تركيا حيال مسألتين أساسيتين. توظيفها الصراع في سورية لتصفية حساباتها التاريخية مع أكرادها، من جهة. ومزايداتها حيال روسيا من جهة أخرى، ما أدخل المنطقة في توترٍ، هي في غنى عنه. ويشكل السلوك التركي حيال روسيا مصدر قلق بالنسبة للدول الأوروبية التي لا مصلحة لها في فتح جبهةٍ جديدةٍ مع روسيا في الشرق الأوسط، في وقتٍ لم تنجح فيه في حسم الصراع لصالجها على الجبهة الأوكرانية في شرق القارة الأوروبية.
السؤال المطروح، هنا، لماذا تأخرت تركيا في مطالبة أوروبا بالتكفل باللاجئين، وتركت الأمور تصل إلى هذا الحد؟ فهي لم تصعد من مطالبها، على الرغم من العتبات الرمزية والنفسية: لما تجاوز المهاجرون السوريون عتبة المليون، ثم عتبة المليونين، وأخيراً، أزيد من مليونين ونصف مليون. وذلك في وقتٍ تتجه فيه كل المؤشرات نحو تصعيد للحرب، خصوصاً مع توسع رقعة نشاط داعش، وما تلاه من تدخل جوي غربي، ثم روسي في سورية. قد يكون هذا التأخر تعبيراً عن وعي الحكومة التركية بنقاط ضعف موقفها التفاوضي حيال أوروبا. كما قد يعبّر عن مراهنةٍ تركيةٍ على رد فعل أوروبي أكثر حزماً من روسيا بعد التوتر بينها وبين تركيا. وقد يكون التحرك التركي الأخير (المطالب) دلالةً على تخوف من أن تقود الهدنة المتفق عليها بين الولايات المتحدة وروسيا إلى تسويةٍ سلميةٍ في سورية لا تأخذ بالضرورة بالحسبان مسألة اللاجئين في تركيا، ومصالح الأخيرة. من الصعب الجزم، في مثل هذه الحالات، بمدى صحة التفسيرات المقترحة، هنا، لأن المسألة مسألة مدركات في سياقٍ، ليست في المصالح جامدة، بل تطورية. ما يمكن قوله، في الختام، إنه من المحتمل أن ينزل الاتحاد الأوروبي عند رغبة تركيا في المسائل “التقنية”، مثل المساعدات المالية وقضية التأشيرات. لكن، من غير المرجح أن يرضخ لها في ملف مفاوضات الانضمام.
عبدالنور بن عنتر
صحيفة العربي الجديد