منذ شباط/فبراير 2016، احتج القطاع العام في كردستان على الفساد وعدم دفع الأجور. وللمرة الأولى منذ 25 عاماً، يُبدي المتظاهرون الأكراد خيبة أملهم العلنية إزاء الحكومة. وفي غضون ذلك، أطلق رئيس «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مسعود بارزاني، الذي أنهى فعلياً ولايته كرئيس، حملة لتحقيق الاستقلال الكردي. إلا أن شعور الإحباط المتنامي تجاه الحكومة قد يكون نذير شؤم بالنسبة إلى الاستفتاء العام حول استقلال كردستان.
وتختلف التظاهرات الحالية عن الاضطرابات المدنية السابقة من ناحية خلفية المتظاهرين وأهدافهم على حد سواء. فقد تبنت هذه التظاهرات في الوقت الحاضر مطالب تدعو قادة «حكومة إقليم كردستان» إلى التنحي وحل الحكومة. وعلى الرغم من كون هذه التظاهرات مدنية، إلا أن عناصر من قوى الأمن والبيشمركة تشارك فيها أيضاً. كما أن المدارس العامة والجامعات والمستشفيات والمحاكم في المنطقة قد أغلقت أبوابها، حتى أن أربيل، المعقل التقليدي للاستقرار، قد عانت من التظاهرات.
وقد ازدادت حدة الاستياء لأسباب واضحة، إذ لم تسدَد أجور موظفي القطاع العام منذ أيلول/سبتمبر 2015 وقد شملت الإجراءات التقشفية الأخيرة خفضاً للرواتب بنسبة تصل إلى 75 في المائة. إلا أن المحفزات الأساسية للتظاهرات تنبثق من الإخفاقات التشريعية والعملية الكبيرة للحكومة الكردية.
ويظهر ذلك من خلال تركيز الرئيس بارزاني على قضية الاستقلال في حين تهتز المنطقة الكردية بفعل التظاهرات والاشتباكات الغاضبة بين قوات البيشمركة وإرهابيي تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») وبلوغ قيمة الديون المترتبة على «حكومة إقليم كردستان» 25 مليار دولار وتأزم العلاقات بين أربيل وبغداد وغموض العلاقات مع أنقرة وطهران. وفي غضون ذلك، تنتقد الوفود الرسمية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة المنطقة الكردية على خلفية تعثر الديمقراطية وعدم شفافية الإيرادات والإسراف في الميزانيات. ولا يقدم الاستفتاء دواءً ناجعاً لأي من هذه القضايا.
ويتفق الخبراء الاقتصاديون المحليون على أن السوق الكردي غير متوازن، لأن استهلاك هذا السوق يفوق إنتاجه إلى حد كبير، ويعزى ذلك جزئياً إلى ضعف قطاعي التصنيع والخدمات والإنتاج الزراعي والسياحة.
لقد خاضت «حكومة إقليم كردستان» تجربة الاقتصاد الناجح بواسطة الإيرادات النفطية فقط، فبدأت بتصدير النفط بشكل مستقل عام 2013. ومن دون إعلام مجلس النواب، وقّع أيضاً «الحزب الديمقراطي الكردستاني» عقداً لخمسين عاماً مع «حزب العدالة والتنمية» التركي لتصدير النفط مباشرةً إلى تركيا. وفي عام 2015، زعم وزير الموارد الطبيعية في «حكومة إقليم كردستان» أنه “من خلال تصدير النفط مباشرةً، يمكن لـ «حكومة إقليم كردستان» أن تدر إيرادات أكثر من حصة الميزانية التي تخصصها بغداد للمنطقة”.
واحتجاجاً على سياسة أربيل النفطية الجديدة، توقفت بغداد عن تقديم حصة الميزانية المخصصة لأربيل، الأمر الذي خلق أزمة مالية في القطاع العام التابع لـ «حكومة إقليم كردستان» خلال العامين 2015 و2016. وتدّعي «حكومة إقليم كردستان» حالياً أن هذه الأزمة، بالإضافة إلى الانخفاض الحاد في أسعار النفط والحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» والإدارة الفاشلة، هي عوامل تحول دون دفع أجور الموظفين الحكوميين في الوقت الحاضر.
وحالياً، تتوجه «حكومة إقليم كردستان» نحو استخراج الغاز الطبيعي، الذي تقدَر كميته بـ 5.7 تريليون متر مكعب، وتصديره، على أمل أن تصبح أكثر مصادر الغاز الطبيعي موثوقية بالنسبة لتركيا. فوفقاً لعقد بين وزارة الموارد الطبيعية و”المؤسسة العامة للطاقة” في تركيا (Turkish General Energy)، يتعين على وزارة الموارد الطبيعية تزويد تركيا بـ 4 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي بحلول عام 2017. ويعتقد بعض السياسيين الأكراد أن هذه الخطوة يمكن أن تساعد كردستان على تحقيق اقتصاد مستقل، إلا أن تصدير الغاز الطبيعي إلى تركيا على مرأى من بغداد وإيران وروسيا قد يهدد إلى حد كبير تواجد كردستان على الساحة السياسية.
كما أن التصدعات السياسية تقوّض أمن المنطقة الكردية. ففي الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» فقط، أصيب 8,000 عنصر من البيشمركة وقُتل أكثر من 1,300 آخرين. وبالرغم من الجهود التي بدأت عام 2005 لتوحيد العناصر المتباينة في قوات البيشمركة، تشير التقارير البرلمانية إلى أن هذه القوات ما زالت منقسمة ما بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ووزارة البيشمركة. وهناك 60,000 عنصر من القوات، مجهولي الأسم والرتبة بالنسبة إلى مجلس النواب ووزارة البيشمركة، يتلقون أجورهم من وزارة البيشمركة كل شهر، فيما يتلقى 53,000 عنصر معروف من القوات أجورهم من الوزارة.
وتوقفت الجهود لتوحيد القوى المحاربة في المنطقة الكردية من قبل مجلس الوزراء في عام 2014، وحتى الآن لم يتم توحيد سوى 14 لواء فقط من قوات البيشمركة. ومما يزيد من عدم الاستقرار قيام «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بإقصاء وزير البيشمركة السابق من السلطة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي إثر خلافات سياسية بين الحزبين.
وحالياً، يواجه «إقليم كردستان» آفاقاً قاتمة نتيجة الانتكاسات الاقتصادية والأمنية التي تعرض لها. فما زال تنظيم «الدولة الإسلامية» يهدد المنطقة الكردية فيما تحارب قوات البيشمركة هذه القوة الغادرة نيابة عن العالم على حدود المنطقة الكردية. بيد، تعجز «حكومة إقليم كردستان» عن تأمين أجور ملائمة أو قوات بيشمركة غير حزبية ومدربة جيداً.
ويكتسي جهاز المخابرات التابع للمنطقة الكردية طابعاً حزبياً أكثر تعقيداً. فقد جمع “مجلس أمن إقليم كردستان” (“مجلس الأمن”)، الذي أسسه مجلس النواب عام 2011، ما كان يُعرف سابقاً بـ “وكالة مخابرات البيشمركة” و “وكالة الأمن (“الأسايش”) والمخابرات”. ويسعى “مجلس الأمن” إلى تبادل المعلومات المخابراتية وتوفير الأمن والاستقرار لسكان «إقليم كردستان» وصون المبادئ القانونية والدستورية في المنطقة، إلا أن هذه الأهداف لم تتحقق بعد. فضلاً عن ذلك، يتألف “مجلس الأمن” حصرياً من ضباط «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و «الاتحاد الوطني الكردستاني»، إذ يتم إقصاء الأحزاب السياسية الأخرى في المنطقة الكردية. وحتى ضمن هذا التنظيم المحصور بحزبين، يتحكم «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بالمفاصل الأساسية لـ “مجلس الأمن” ويتعرض أعضاء «الاتحاد الوطني الكردستاني» للتمييز. ورغم أن “مجلس الأمن” قد أثبت نجاحه في الحرب ضد تنظيم «داعش»، إلا أنه فشل نسبياً في صون المبادئ القانونية والدستورية للمنطقة الكردية خلال الهجمات التي شنها تنظيم «الدولة الإسلامية» على كردستان في آب/أغسطس 2014. بالإضافة إلى ذلك، لم يحرص “مجلس الأمن” على تنحي الرئيس عن منصبه عند انتهاء ولايته في آب/أغسطس 2015. وبدلاً من ذلك، قام “المجلس” بتعطيل مجلس النواب وحجب رئيسه. وبذلك أصبح “مجلس الأمن” سيفاً مسلطاً على رقاب المعارضين في الداخل عوضاً عن درع من شأنه حماية كردستان من التهديدات الخارجية.
وتشير جميع هذه العوامل إلى أن الأكراد غير مستعدين لتأسيس دولتهم المستقلة الخاصة بهم. واليوم، بعد أن باع عدة عناصر من البيشمركة ذخائرهم وأسلحتهم لدفع بدلات الإيجار أو إعالة أُسرهم، لم يعد الكثير منهم يملك نقوداً للعودة إلى مراكزه. وفي ظل هذا الوضع غير القابل للاستمرار، باتت قوات البيشمركة تهدد اليوم بالإطاحة بالحكومة.
وتُعتبر هذه التظاهرات فريدة في تاريخ الأكراد. فحتى عام 2003، كانت التظاهرات في «إقليم كردستان» تنظَم ضد «حزب البعث» وتطالب بدعم غربي للأكراد. وبعد ذلك طالب المتظاهرون بالحقوق السياسية للأكراد في العراق الجديد حتى عام 2007. من ثم، بدأت التظاهرات تسلط الضوء على المطالب الداخلية. فقد نظم مسيحيو دهوك تظاهرات عام 2008 للمطالبة بحقوق الاستقلالية في منطقتهم، الأمر الذي عكس تفكك الروابط الاجتماعية في كردستان. وفي عام 2010، طالب المتظاهرون بحقوق وطنية ودينية، ودافعوا عن حرية مزاولة الأنشطة السياسية. وقد وقع احتجاج في أيار/مايو 2010 أمام مكتب مجلس النواب في منطقة السليمانية لمطالبة المجلس بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في قضية مقتل صحافي والقبض على القتلة. هذا ويعتقد كثيرون أن الصحافي قد قُتل على خلفية توجيهه انتقادات للحكومة.
وفي أعقاب “الربيع العربي”، اندلعت تظاهرات دامية في مناطق مختلفة من «إقليم كردستان» عام 2011، إذ فقد السكان ثقتهم بالسلطات كونها لم تحقق في أحداث العنف اللاحقة ولم تعالج مطالب المتظاهرين. وقد حركت هذه الموجة من الاضطرابات الإسلاميين الأكراد، الذين تظاهروا في دهوك وزاخو في كانون الأول/ديسمبر 2011 ضد محلات الخمور، محرقين المتاجر. وفي ربيع عام 2013، تظاهر الإسلاميون في أربيل أمام مكتب مجلس النواب وأثاروا بلبلة سياسية ودينية في العاصمة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت التظاهرات أمراً روتينياً وأدت إلى انعدام الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وبالرغم من محاولات قمع المتظاهرين في أربيل، مثل توقيف ناشطين كانوا يخططون للتظاهر احتجاجاً على الظروف المعيشية للمواطنين، شهدت أربيل تظاهرات سلمية وإضرابات حتى بداية شباط/فبراير 2016. وقد أدت الإضرابات إلى شل أعمال الحكومة، كما طالب الجمهور تغيير الحكومة وإنهاء الفساد.
وتشير المشاريع الاقتصادية الفاشلة والسياسة النفطية الخاطئة والعجز عن بناء بنية تحتية استراتيجية إلى أن المنطقة الكردية ليست جاهزة للاستقلال. ولا بد من أن ينصب كل التركيز على الأمن؛ ورغم استمرار قوات البيشمركة في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» إلا أن عدم تسديد الأجور والتجويع يضعفان المقاومة الكردية على الجبهات الأمامية.
وقد عملت بعض السلطات على استخدام وكالات المخابرات في المنطقة الكردية لتهديد النقاد والمعارضين في الداخل بدلاً من توفير الاستقرار والمنظمات الدستورية في المنطقة. وحيث سبق للسلطات الكردية أن لعبت ورقة الاستفتاء على الاستقلال عدة مرات في الأوقات والأماكن الخاطئة، فلم تعد هذه الورقة فعالة إلى حد كبير من حيث التشجيع على التضامن المحلي. مع ذلك، فهي تنقذ السلطات من الملاحقة الجنائية. وقد أثارت هذه العوامل خيبة أمل وإحباطاً هائلاً لدى الشعب الكردي، حتى على ضوء الاحتفالات بالذكرى الخامسة والعشرين للانتفاضة التي أطاحت بنظام البعث. وتُعتبر الجغرافيا السياسية الحالية لـ «إقليم كردستان» والمواقف السلبية التي تتخذها الدول الإقليمية تجاه استقلالية الدولة الكردية ضربات إضافية بحق مشروع الاستقلال.
فرزند شيركو
معهد واشنطن