مؤخرا، كثف ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عملياته الإرهابية في اليمن، بيد أن اللافت كان ظهوره المفاجئ بتلك القدرات الكبيرة، رغم حداثة ظهوره في اليمن وعدم إعلانه حتى الآن عن قيادته.
ومع ذلك بدا وكأنه قد سيطر على بوصلة الإرهاب في اليمن، بعملياته الإرهابية النوعية (التدميرية والمتوحشة)، لاسيما في العاصمة اليمنية المؤقتة (عدن) التي أختارها دون غيرها مسرحا لعملياته، منذ تحريرها أواخر يوليو/تموز الماضي.
وقد كشف تقرير حديث عن تنفيذ 33 عملية اغتيال وأربع هجمات بسيارات مفخخة، خلفت 34 قتيلا و43 مصابا، وذلك فقط خلال شهر يناير/كانون الثاني 2016، وفي مدينة عدن لوحدها.
ولعل مثل ذلك يقودنا إلى البحث في مجموعة تساؤلات هامة على شاكلة، من الذي يقوم بتلك العمليات النوعية والقوية؟ وهل يوجد في اليمن ما يسمى فعلا بتنظيم داعش؟ وما هي العلاقة بين القاعدة وداعش؟ وهل تحولت القاعدة إلى داعش دون أن تعلن ذلك رسميا؟ أم أن هناك جهة ثالثة لها علاقة بالتنظيمين، هي من تقوم بتحريك خيوط لعبة “الإرهاب” وتوجيهه؟
بين القاعدة وداعش
بالعودة قليلا إلى الوراء، سنجد أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، خرج عمليا من ثنايا تنظيم القاعدة إثر خلاف جوهري تمثل أساسا وبداية في رفض تنظيم الدولة مواصلة الالتزام بأحد مبادئ تنظيم القاعدة القائم على عدم استهداف الشيعة.
“تنظيم الدولة وخلافا لتنظيم القاعدة -الذي كان يؤمن بتأسيس دولة الخلافة الإسلامية المستقبلية بشكل تدريجي وكهدف مستقبلي يأتي بعد إضعاف وإنهاك العدو البعيد- انتهج سياسة أخرى تجعل من تأسيس دولة الخلافة هدفا آنيا لتوفر عوامل تحققها، حسب اعتقاده”
وطبقا لما كشفته خلاصة مراسلات مسربة بين القيادة المركزية للقاعدة بأفغانستان، وأبو مصعب الزرقاوي زعيمها في بلاد الرافدين والذي يقف خلف النواة الأولى لتنظيم الدولة، فإن الزعيم الروحي للتنظيم أسامة بن لادن هو من وجه بعدم استهداف الشيعة منذ وقت مبكر، بسبب العلاقة الجيدة التي ربطت التنظيم بإيران لوقوفها ومساعدتها لعناصر التنظيم بتسهيل طرق المرور والإمدادات عبرها، واللجوء إليها كأحد الملاذات الآمنة بعد الضربات الأميركية القاصمة التي لحقت بالتنظيم في أفغانستان وباكستان عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.
بالنسبة لتنظيم القاعدة، كانت واحدة من إستراتيجيته الرئيسية تقوم على استهداف العدو البعيد (أميركا والغرب) قبل العدو القريب (الدول العربية الحليفة للغرب)، كأولوية تهدف إلى استنزافه وإضعافه.
أما تنظيم الدولة، فقد كان لرفضه هذا المبدأ مسوغاته العملية، لكونه برز أساسا كقوة صاعدة في مواجهة الدولة الشيعية الجديدة في العراق، الموالية والمحكومة من إيران. وقد ساعده على ذلك الإقصاء والتهميش والظلم الذي تعرض له السُنة في العراق إبان الاحتلال الأميركي.
كما أنه وخلافا لتنظيم القاعدة -الذي كان يؤمن بتأسيس دولة الخلافة الإسلامية المستقبلية بشكل تدريجي، كهدف مستقبلي يأتي بعد إضعاف وإنهاك العدو البعيد- انتهج سياسة أخرى تجعل من تأسيس دولة الخلافة هدفا آنيا لتوفر عوامل تحققها حسب اعتقاده.
وفي سبيل ذلك التزم منهجية قتالية تعرف بإستراتيجية “البقاء والتمدد”، أو “السيطرة والتوسع”، السيطرة بداية على المناطق السنية، مستغلا استعدادها لذلك نتيجة تضررها من سياسة الحكومة الشيعية، مع التوسع والتمدد الأفقي في المجتمع العراقي وفق منهجية تفرض عليه العمل مع المجتمعات المحلية المسيطر عليها في كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
داعش اليمن
بعد ظهور داعش العراق والشام، حدثت خلافات داخل الأطر القيادية للقاعدة في اليمن حول مبايعة أبوبكر البغدادي، الذي كان -وعلى وقع انتصاراته السريعة والمتلاحقة- قد حول نفسه إلى مركز قيادة جديد ينافس القيادة العالمية للقاعدة بعد أن أعلن نفسه خليفة للمسلمين أواخر يونيو/حزيران 2014، سعيا إلى استقطاب واحتواء بقية فروع القاعدة في العالم.
كانت القيادة المخضرمة للتنظيم في اليمن من الجيلين الأول والثاني (معظمهم عملوا مع “أسامة بن لادن” في أفغانستان وباكستان وأدوا البيعة له) ترفض مبايعة البغدادي، الذي زاد إعلانه لنفسه “خليفة للمسلمين” من حدة الخلاف مع القيادة المركزية للتنظيم.
وعقب مقتل أمير القاعدة في جزيرة العرب ناصر الوحيشي منتصف يونيو/حزيران الماضي، بطائرة أميركية بدون طيار، تولى قاسم الريمي قيادة التنظيم، ورغم ما أشيع حينها فإنه كان على رأس تيار مؤيدي مبايعة البغدادي، إلا أنه لم يصدر عنه -حتى الآن- أي بيان رسمي بمبايعته والتحول إلى فرع لداعش في اليمن.
في هذه الأثناء لوحظ على نحو كبير خفوت اسم القاعدة لمصلحة بروز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش اليمن)، الذي أصبح مؤخرا يسارع إلى تبني كل عملية إرهابية نوعية. كما لم نعد نسمع بأية أنشطة أو ظهور سياسي أو إعلامي لتنظيم القاعدة في اليمن، رغم أنه ظل طوال الفترة الماضية يُسوَق من قبل الاستخبارات الأميركية باعتباره فرع القاعدة الأقوى على مستوى العالم.
مفارقات مثيرة
على نحو عملي، كان من السهل ملاحظة أن شكل ونوعية العمليات الإرهابية التي أصبحت تعلن اليوم باسم داعش اليمن، لم تختلف كثيرا عن تلك التي اشتهر بها تنظيم القاعدة طوال الفترة الماضية، وبشكل خاص ما يتعلق باستهداف مسئولي وأجهزة الدولة الرسمية.
“من الواضح أن تنظيم الدولة ركز كافة عملياته النوعية على استهداف المسئولين في الحكومة الشرعية وأجهزتها التي تخوض حربا شرسة مع الحوثيين، لذلك استحوذت محافظة عدن على معظم عملياته، بعد أن آلت مؤخرا إلى كنف الدولة الشرعية وأصبحت عاصمة مؤقتة للدولة”
وقد تبنى داعش كافة العمليات الأخيرة التي استخدمت فيها السيارات المفخخة أو نفذها انتحاريون، واستهدفت مسئولين عسكريين ومسئولين في السلطة المحلية بمدينة عدن. فضلا عن أن معظم العمليات التي استهدفت قياديين في المقاومة الشعبية هناك وجهت فيها التهم إلى داعش، حتى تلك التي لم يعلن عن تبنيها رسميا.
في مقابل ذلك، يلاحظ أن عمليات تنظيم القاعدة -في جنوب اليمن بشكل خاص- تنزع نحو إستراتيجية البقاء والتمدد. ففي مطلع أبريل/نيسان الماضي (أي مع الأسابيع الأولى لحرب السيطرة الشاملة التي سعت لها ميليشيات الانقلاب التابعة للرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، بالتحالف مع المتمردين الحوثيين)، أعلنت “مجاميع إرهابية” تابعة لتنظيم القاعدة سيطرتها على مدينة حضرموت (أقصى شرق اليمن). وفي مطلع شهر فبراير/شباط 2016، أعلنت القاعدة أيضا سيطرتها على مدن في محافظة أبين (جنوب شرق اليمن).
وإذا كان يفترض بنا التعامل مع العمليات الإرهابية في عدن على أنها تابعة لتنظيم داعش، وأن القاعدة فعلا هي من سيطرت على حضرموت وتمددت نحو أبين، وفقا لما أعلن، فإن ذلك يدعونا إلى العودة قليلا لإثارة مسألة الخلافات الجوهرية بين التنظيمين (منهجا وتكتيكا)، ومقارنتها وتحليلها بغية التوصل إلى تفسيرات نهائية تقربنا من كشف ومعرفة ما يدور فعلا في اليمن؟
سنكشف إزاء ذلك حقيقة أن القاعدة في اليمن، أصبحت عمليا تقوم بتنفيذ إستراتيجية تنظيم داعش في العراق والشام، بينما ورث الأخير إستراتيجية القاعدة في اليمن!
أضف إلى ذلك أيضا أن تنظيم قاعدة اليمن، أعلن مؤخرا -مستغلا زخم الحرب الداخلية بين السلطة الشرعية والميليشيات الانقلابية- أن ميليشيات الحوثي الشيعية الموالية لإيران (والتي يصفها في أدبياته بـ”الرافضة”)، تعتبر أحد أهدافه الرئيسية، ما يجعله متشابها في هذا الجانب مع داعش العراق والشام.
أما تنظيم داعش اليمني فمن الواضح أنه ركز كافة عملياته النوعية على استهداف المسئولين في الحكومة الشرعية وأجهزتها التي تخوض حربا شرسة مع الحوثيين الموالين لإيران، لذلك استحوذت محافظة عدن على معظم عملياته، بعد أن آلت مؤخرا إلى كنف الدولة الشرعية وأصبحت عاصمة مؤقتة تدير منها الحكومة أجهزتها المختلفة.
إضافة إلى ما سبق، فإن تنظيم داعش في اليمن، رغم أنه ما زال حديث الولادة والنشأة والظهور، ولم يعلن رسميا عن قياداته، فإن العمليات التي يتبناها توحي بقوة كبيرة وقدرات ضخمة وتخطيط منظم ودقيق، وتلك سمات ظلت محصورة في تنظيم القاعدة.
نتائج وخلاصات
مع ما يمكن أن تقدمه تلك المفارقات من مؤشرات نظرية قد تقربنا أكثر إلى تقرير مجموعة حقائق ظلت تطلق بين الحين والآخر كشكوك أو افتراضات، إلا أنه يتوجب علينا مهنيا التوقف أولا عند السؤال الجوهري: إذا كانت الظروف الخاصة في العراق وسوريا قد فرضت ظهور داعش، ليحل محل تنظيم القاعدة، فما الذي يدعو إلى ظهوره في اليمن، ليحل محل تنظيم القاعدة؟
ويزيد من أهمية طرح مثل هذا التساؤل، أن هذا الأخير قد أثبت قوته التهديدية على مستوى العالم، وأي تحول جديد في التبعية وبالتالي المسمى، قد يستدعي بالضرورة جهودا جبارة في تغيير المنهجية الفكرية والقناعات والولاءات والاستقطابات، فضلا عن إعادة ترتيب البيت الداخلي من جديد، بما في ذلك الهيكلية والتكتيكات الإستراتيجية.
وقد يستغرق الأمر وقتا طويلا، خصوصا إذا عرفنا أن تنظيم دولة العراق تعود جذوره إلى العام 2003 مع بداية الاحتلال الأميركي ثم ظهور أبي مصعب الزرقاوي، وقد مر المسار بمراحل عدة حتى وصل إلى مستوى “العالمية”.
“يمكن اعتبار الفوارق بين تنظيمي الدولة والقاعدة في اليمن مجرد تبادل واضح في الأدوار والوسائل، فهي -في نهاية المطاف- تصب جميعها في مصلحة الإبقاء على الإرهاب حاضرا بقوة في اليمن، بغض النظر عن المسميات القائمة على الفوارق الجوهرية والخصوصيات المفترضة”
وقد يكون ذلك مطلوبا فقط في حال انتقل صراع التنظيمين من العراق إلى اليمن بتبايناته المستحكمة، أما وقد تمت تصفية معظم قياداته المخضرمة من الصف الأول المتمسكة بفكر القاعدة وأهدافها ومبادئها، مع صعود قيادة جديدة، فإن الأمر هنا سيكون أسهل بكثير. بيد أن ذلك قد يتطلب تدرجا مناسبا لاستكمال هذه العملية على نحو سلس.
وعليه، وبالعودة مجددا إلى ما سبق تبيانه من مفارقات، يمكن اعتبار تلك الفوارق بين التنظيمين في اليمن مجرد تبادل واضح في الأدوار والوسائل، فهي في نهاية المطاف، تصب جميعها في مصلحة الإبقاء على الإرهاب حاضرا بقوة في اليمن، بغض النظر عن المسميات القائمة على الفوارق الجوهرية والخصوصيات المفترضة.
إن ذلك قد يعزز -بشكل أو بآخر- فكرة “المؤامرة” القائمة على وجود طرف ثالث يقوم بتحريك خيوط لعبة الإرهاب في اليمن، يعود له الفضل في توزيع الأدوار وتنسيقها في إطار عمل تكاملي، يهدف في النهاية إلى إعاقة وصول البلاد إلى المراحل الأخيرة من استكمال عملية استعادة السلطة الشرعية من يد الميليشيات الانقلابية، والجماعات الإرهابية على حد سواء، وصولا إلى هدف بسط نفوذ الدولة على كامل الأرض اليمنية.
ولعل من المناسب هنا الاستشهاد بتركيز المجتمع الدولي -بما في ذلك المبعوث الأممي إلى اليمن- على تكرار فكرة أن الحرب الداخلية في اليمن تساعد على تمدد وتوسع التنظيمات الإرهابية، وهي إشارات لا تخلو من إيحاءات تدعو المستفيدين من تلك اللعبة في اليمن إلى مواصلتها.
إن مواصلة تلك اللعبة قد يفضي إلى أحد مسارين، إما فرض فكرة إيقاف الحرب الداخلية لمصلحة أفضلية الحل السياسي بمشاركة الجميع دون استثناء؛ وإما تعزيز هدف إبقاء اليمن تحت الوصاية الدولية للتدخل في أي لحظة تحت مبرر القضاء على الإرهاب.
وإذا كان الأول محدودا بصفقة تحركها المصالح المشتركة بين الدول الفاعلة إقليميا ودوليا، على أساس ما يحدث في الشرق الأوسط؛ فإن الثاني قد يكون مرجحا أكثر حتى في حال تمكنت قوات التحالف العربي بقيادة السعودية من تحقيق هدفها الرئيسي المتمثل في إعادة الشرعية عبر مواصلة الخيار العسكري. حيث من المرجح أن يعتمد المتضررون من النتيجة على تكثيف العمليات الإرهابية بشكل أكبر.
عبدالحكيم هلال
الجزيرة نت