فى تصريح يتسم بالتشاؤم أكد نائب رئيس صندوق النقد الدولى على ضرورة القيام بعمل مشترك لمنع حدوث انهيار اقتصادى عالمى فى ظل المخاطر التى تنطوى عليها السياسات الاقتصادية المتبعة حاليا والإحساس العام بأنه لا يوجد شىء آخر لفعله إزاء أزمات الاقتصاد العالمي. ويكمن الحل بالنسبة له فى زيادة الحوافز المالية والنقدية وضبط الإنفاق العام وتخفيض الضرائب وفقا لما ذكره فى مؤتمر للجمعية الوطنية لاقتصاد الأعمال فى واشنطون.
وبداية فإن هذا التشاؤم يتناقض مع بيانات صندوق النقد الدولى الصادرة فى شهر يناير الماضى فى التحديث الذى أجراه الصندوق لتقرير آفاق الاقتصاد العالمى (World Economic Outlook). وتشير بيانات الصندوق إلى أن معدل النمو الحقيقى للاقتصاد العالمى سيبلغ نحو3.4% عام 2016، مقارنة بنحو 3.1% عام 2015. كما أشار الصندوق إلى أن معدل النمو سيرتفع إلى 3.6% عام 2017. وبالنسبة للدول النامية فإن معدل النمو الحقيقى للناتج المحلى الإجمالى سيبلغ 4.3% فى العام الجاري، مقارنة بنحو 4% فقط فى العام الماضي. كما أشار الصندوق إلى أن وتيرة النمو سترتفع فى عام 2017 وسيبلغ المعدل فى الدول النامية نحو 4.7%. أما الدول الصناعية المتقدمة فسيرتفع معدل النمو الحقيقى فيها من 1.9% عام 2015، إلى 2.1% عام 2016 وسيظل عند هذا المستوى فى عام 2017.
ووفقا لهذه التقديرات والتوقعات فإن النمو يتحسن وهو ما يتناقض مع حديث الانهيار الاقتصادى العالمى والأعمال المشتركة الضرورية لمنعه وفقا لنائب رئيس الصندوق. أما الرؤية الخاصة بسياسات منع الانهيار فإنها لا تعدو كونها ملخصا مركزا لنفس السياسات التى قادت إلى الأزمة الاقتصادية العالمية التى انفجرت عام 2008 وما زالت تداعياتها ودوراتها الحلزونية متواصلة حتى الآن.
والحقيقة أنه عندما انفجرت الثورة الشعبية فى تونس ومن بعدها مصر وكلتاهما كانتا تنفذان وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، كان الأمر بلا أى شك شهادة فشل ذريع لتلك الوصفات الأيديولوجية المصمطة. وفى اجتماعات الربيع والخريف لعام 2011 بدا أن المؤسستين تشعران بالمسئولية والذنب وعلى استعداد لسماع أصوات من خارج جوقتهم الأيديولوجية الجامدة. ومع اضطراب الأوضاع والاختيارات فى البلدين وعودة نفس السياسات الاقتصادية ـ الاجتماعية على يد الحكومات المتتابعة فى البلدين عاد البنك والصندوق لتجاهل أى أفكار للإصلاح، خاصة أنهما يستوعبان فى مراكزهما القيادية بعض المسئولين الذين ساهموا فى تدهور وتخريب اقتصادات بلدانهم وبالذات عبر برامج الخصخصة المتخمة بالفساد والتى كانت تتم بتواطؤ من صندوق النقد والبنك الدوليين لنزع أفضل شركات الدول النامية لصالح الرأسمالية العالمية بأسعار بالغة التدنى ومهدرة للحقوق والأموال العامة فى الدول النامية.
التقشف من يتحمله والتوسع من يدفع ثمنه؟
هناك سياستان، الأولى أن يتم اتخاذ إجراءات مالية ونقدية إضافية تحابى الطبقة الرأسمالية، مثل خفض الضرائب على الأثرياء والشركات وتخفيض سعر الفائدة، وتخفيض سعر صرف العملة المحلية لحثها على ضخ استثمارات جديدة تحرك النمو الاقتصادى وتسهم فى زيادة القدرة التنافسية عند التصدير. كما يطالب الصندوق بضبط وتخفيض الإنفاق العام بالذات فى الجوانب المتعلقة بالأجور والدعم والنفقات الاجتماعية لاستعادة التوازن المالي. وهذه هى السياسة التقليدية للصندوق فى ملامحها العامة والتى لا يمل من تكرار المطالبة بتطبيقها فى كل بلدان العالم مهما كانت ظروفها الاقتصادية ومراحل تطورها الاقتصادي.
وفى ظل أزمة تراجع الاحتياطى والعجز الكبير فى الموازين الخارجية لمصر، فإن صندوق النقد والبنك الدوليين يعيدان تكرار هذه الوصفة ومطالبة مصر بتطبيقها رغم آثارها السلبية على الفقراء والطبقة الوسطى وعلى اعتبارات العدالة الاجتماعية التى تشكل مطلبا رئيسيا للشعب المصرى وأحد أهم شعارات ثورته الأعظم فى 25 يناير 2011 وموجتها الثانية فى 30 يونيو 2013.
ورغم أهمية قضية كبح الإنفاق العام للسيطرة على اختلال الموازنة العامة للدولة، أو التوسع فى هذا الإنفاق لحفز النمو الاقتصادي، فإن هيكل هذا الإنفاق يتسم بنفس القدر من الأهمية ويوضح بصورة أو بأخري، كيف يتم التصرف فى أموال دافعى الضرائب، وهل تُستخدم تلك الأموال فى إنعاش الاقتصاد وتوفير فرص العمل، أم فى مساندة الرأسمالية المتعسرة بسبب أنانيتها ولجوئها لأنشطة المضاربة والتحايل.
وبالمقابل فإن هناك طريقة أخرى لحفز النمو تعتمد على حفز الطلب الفعال من خلال إجراءات تحقيق العدالة الاجتماعية التى تزيد حصص الفقراء والطبقة الوسطى من الدخل مما يزيد من فعالية الطلب الذى يخلق حوافز حقيقية فى السوق لزيادة الاستثمارات لتلبية هذا الطلب بما ينطوى عليه ذلك من خلق وظائف جديدة وتوزيع دخول جديدة تشكل طلبا جديدا يحرك الاستثمارات والنمو، أو تخلق مضاعف الاستثمار الذى يشكل عنصرا جوهريا فى أى دورة نمو وازدهار اقتصادي.
وخلال الأزمة الاقتصادية العالمية كانت هناك سياسات متناقضة فأوروبا حاولت بالفعل كبح الإنفاق وبخاصة الإنفاق الاجتماعى لتقليص عجز الموازنة وخفضت سعر الفائدة لأدنى مستوى معروف وسمحت لليورو بالتراجع مقابل العملات الأخري. وهى بوجه عام كانت متوافقة مع مطالب الصندوق التى تقدم عادة للدول النامية. وللأسف فإن الطبقة الوسطى والفقراء هم من يتحملون عبء التقشف بدلا من تحميله للطبقة الرأسمالية التى تسببت فى الأزمة بالذات فى القطاعات الطفيلية منها.
وبالمقابل فإن الولايات المتحدة تصرفت بصورة مختلفة جوهريا عن الأوروبيين، حيث رفضت خطة التقشف الأوروبية. وحذرت من أن تلك الخطة ستقود إلى عودة الركود ليس فى أوروبا وحدها ولكن فى الاقتصاد العالمى المأزوم والذى يتحرك ببطء ويبدو فى وضع هش لا يحتمل مثل تلك الإجراءات الأوروبية. وكان الموقف الأمريكى يتركز فى أن الإجراءات الأوروبية ستؤدى إلى جمود أو حتى تراجع الواردات الأوروبية من السلع والخدمات من الدول الأخري، بما يؤدى إلى جمود أو تراجع الطلب على الصادرات السلعية والخدمية للشركاء التجاريين والاقتصاديين عموما لأوروبا ويسهم فى تباطؤ أو حتى ركود اقتصادات هؤلاء الشركاء التجاريين. وتوسعت الولايات المتحدة على العكس من ذلك فى إنفاقها العام وحملته للعالم عموما من خلال استغلال وضعية الدولار كعملة احتياط دولية.
ومن المعروف أن الولايات المتحدة عندما تتعرض لعجز الموازنة العامة للدولة، فإنها لا تعانى بنفس القدر الذى تعانيه الدول الأوروربية عندما تتعرض لنفس العجز، حيث تستغل الولايات المتحدة الأمريكية، وضعية الدولار كعملة احتياط دولية تتم تسوية الالتزامات الدولية من خلالها فى القسم الأكبر من التعاملات الاقتصادية الدولية، لتفرط فى الإصدار النقدى دون غطاء ذهبى أو إنتاجي، وتستخدم أوراقا نقدية لا تكلفها أكثر من طباعتها فى الحفاظ على قدرتها على تسوية التزاماتها. وهو ما يطرح الجدل مجددا حول جدارة الدولار بحيازة وضعية عملة الاحتياط الدولية مجددا.
القيم الرأسمالية الأولى بالتغيير والإصلاح
بعيدا عن الوصفة الأيديولوجية لصندوق النقد والبنك الدوليين، فإن هناك مجموعة من القيم التى ترسخت فى الاقتصاد العالمى وفى مصر وهى المسئولة عن الأزمات الاقتصادية وهى التى تستحق التغيير والإصلاح. وتأتى فى المقدمة قيمة الحرية الاقتصادية المنفلتة من أى ضوابط أو قيود أو رقابة فعالة من الدولة بمبرر أن قوى السوق قادرة على تصحيح نفسها ومعالجة أى تجاوزات أو أزمات، وأن تدخل الدولة ورقابتها، يفسدان الآليات التلقائية لإصلاح الرأسمالية لنفسها. وكان من نتيجتها حدوث موجة عاتية من الفساد ضربت الشركات الأمريكية فى عام 2001/2002 وخلفت وراءها انهياراً كاملاً لشركة إنرون النفطية التى كانت تحتل المرتبة السادسة فى قائمة أكبر الشركات الأمريكية والمرتبة 16 بين أكبر شركات العالم، وخلفت وراءها أيضا انهياراً كاملا لشركة وولد كوم، وخلفت خسائر نهائية عبارة عن حقوق معدومة قدرها 460 مليار دولار فى عامى 2001، 2002. وأدت فى عام 2008 إلى انهيار عملاقتى الرهن العقارى »فانى ماي« و«فريدى ماك« اللتين كانتا تضمنان قروضا عقارية قيمتها 5,2 تريليون دولار، فى يوليو 2008، ثم الانهيار المالى الهائل فى سبتمبر 2008 والذى فجر الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التى تتواصل تداعياتها حتى الآن فى صورة اضطرابات مالية واقتصادية ودورات حلزونية من الصعود الهش والتراجع المنذر.
كما ان غياب الرقابة الحقيقية، ساعد الشركات على تزييف أعمالها حتى تقلل ما تدفعه للضرائب رغم انخفاض معدلاتها على الطبقة العليا، وساعدها أيضا على تبرير أى قرارات بشأن الأجور عندما يتعلق الأمر بزيادات محدودة او حتى جمود هذه الرواتب، وخلق حالة من عدم الشفافية فى عالم الأعمال عموما. وقد فاقم من ضعف الشفافية وانعدامها فى بعض الأحيان، توسع ظاهرة سرية الحسابات المصرفية التى تعد غطاء نموذجياً للأموال الفاسدة التى تم تكوينها من الفساد والاقتصاد الأسود غير المشروع عموما. كما أن تزايد الملاذات الضريبية الآمنة التى تصل الضرائب فيها إلى صفر أو مستويات متدنية، قد ساعد أيضا على تهرب الرأسمالية الكبيرة فى الكثير من البلدان من دفع الضرائب من خلال تأسيس أعمالها فى هذه الملاذات الضريبية الآمنة، حتى لو كانت تعمل بالأساس فى اقتصادات أخرى خارج تلك الملاذات الضريبية الآمنة، وأدى هذا الأمر إلى تزايد العجز فى الموازنة العامة للدولة فى الكثير من البلدان.
كذلك انتشرت ثقافة »الربح بدون عمل«، التى تعد العنصر الثانى من عناصر الثقافة الاقتصادية العالمية والمصرية والعربية المعوقة للنمو والنهوض الاقتصادى الفعال والدائم. وهذه الثقافة الردئية هى أم الأنشطة الطفيلية مثل المضاربة على العملات والأسهم والمعادن النفيسة وغير النفيسة والسلع الغذائية، وهى أيضا المصدر لكل برامج المسابقات والاتصالات التليفونية التى تلعب على أحلام الناس فى الخروج من الفقر او ضيق الحال من خلال كسب المال بهذه الطريقة وبكميات ضخمة، وهى أيضا التى ولدت ظاهرة الأسواق الآجلة فى المواد الأولية مثل النفط والغاز والمعادن والسلع الزراعية، والتى انتشرت لتشمل كل ما هو قابل للإتجار به بما فى ذلك القروض بعد ذلك لتشكل سوق المشتقات التى توسعت وتضخمت بصورة سرطانية. وتلك الثقافة تتوسع على حساب ثقافة الربح من خلال العلم والعمل اللذين غيرا الدنيا ومصائر الأفراد والأمم ورسما دائما صورة المستقبل والتطور الاقتصادي-الاجتماعى لأى أمة.
وهناك أيضا ثقافة الخبطة القادمة من عالم الاقتصاد الأسود والتى انتشرت فى الاقتصاد العادى بعد دخول موجة كبيرة من رموز الاقتصاد الأسود إلى الاقتصاد العادى بعد غسل اموالهم. فهؤلاء الذين كونوا ثرواتهم من الأنشطة الطفيلية والفساد والأنشطة غير المشروعة مثل الإتجار فى المخدرات أو السلاح أو الآثار، أو البغاء وإدارة صالات القمار، جاءوا من اقتصادهم الأسود بثقافة تقوم على احتكار الفرد أو القلة وهى الأنماط السائدة فى تلك الأسواق غير المشروعة، وتقوم أيضا على معدلات ربح بالغة الارتفاع كآلية أساسية للإثراء السريع ولتعويض أى خسائر قد تحدث من الملاحقة القانونية للأنشطة غير المشروعة والقائمين بها، وهى ما نسميها ثقافة »الخبطة«.
وهناك ايضا ثقافة الاحتكار والاستحواذ والسيطرة لدى الرأسمالية الكبيرة فى كل مكان وفى المنطقة العربية ومصر والتى تشكل سببا رئيسيا فى المبالغة فى معدلات الرباح وفى الأسعار البعيدة عن تكلفة الإنتاج أو الاستيراد وتنتج الغلاء والركود فى الأجل الطويل.
وإذا كان صندوق النقد الدولى يريد فعلا أن ينعش النمو الاقتصادى العالمى فعليه احترام قيمة العدالة الاجتماعية التى لم تكن يوما من القيم المهمة على جدول أعماله. بل تم النظر إليها على أنها من مخلفات عهود مضت ترتبط بالنظم الاشتراكية أو بدولة الرفاهية الاجتماعية المرتبطة بالنموذج الكينزى من الرأسمالية، أو بالدول المستقلة التى توفرت لها إرادة تطوير مجتمعاتها وبناء تكاملها الوطنى على أساس التراضى القائم على العدالة الاجتماعية التى تتجاوز كونها مطلبا اجتماعيا إلى حقيقة أنها محفز للنمو والاستثمار ومحرك رئيس لمضاعف الاستثمار كما ورد آنفا.
وفيما يتعلق بالعدل بين الدول فإن الصندوق عليه أيضا أن يتخذ موقفا عادلا من وضعية الدولار غير المستحقة كعملة احتياط دولية حاكمة تتيح للولايات المتحدة أن تثرى على حساب العالم بإصدار نقدى ليس له غطاء إنتاجى أو ذهبي. وهناك ضرورة تاريخية لاعتماد سلة واسعة النطاق من العملات كمكون لوحدة نقدية دولية تقاس بها كل العملات تجسيدا لمبدأ العدالة فى العلاقات الدولية. كما أن ترسيخ الاندماج الاقتصادى للدول فى الاقتصاد العالمى على أسس عادلة فى كل المؤسسات المالية الدولية وفى معدلات التبادل الدولى التى هى فى جوهرها معدلات للتبادل السلعي، يبدو أمرا مهما للتطور الاقتصادى العالمي. كما أن إلزام الدول الغنية بما سبق والتزمت به نظريا من تقديم مساعدات للدول الفقيرة والنامية بقيمة 0,7% من نواتجها القومية، يمكن أن يحرك الاقتصادات الراكدة ويجعلها شريكا فعالا فى الاقتصاد العالمى وساهم فى ضخ دفقة قوية من الدماء فى شرايين هذا الاقتصاد المعتل بسبب انعدام العدالة بين دوله وداخلها.