في خطوة وُصفت بالمفاجئة، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب “الجزء الأكبر” من القوات الروسية من سوريا بعد أكثر من خمسة أشهر على التدخل العسكري المباشر في نهاية سبتمبر الماضي، الأمر الذي أثار الكثير من التكهنات حول دوافع القرار وتداعياته في المستقبل القريب على الموقف المتأزم في سوريا.
وما أعطى هذا القرار الروسي زخماً هو تزامنه مع بدء جولة جديدة من المفاوضات السياسية بين النظام السوري والمعارضة في جنيف، والتي تسعى خلالها القوى الدولية إلى إيجاد صيغة تفاهم بين الأطراف المتنازعة لوقف الحرب الأهلية المندلعة في سوريا. كما تواكبت الخطوة الروسية مع الذكرى الخامسة لنشوب الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، والتي خلَّفت آثار مدمرة في البلاد.
هل حقق التدخل العسكري الروسي أهدافه؟
لم يكن التدخل العسكري الروسي في سوريا العام الماضي، عشوائياً أو غير محسوب المخاطر، خاصةً في ظل تعقد الوضع في سوريا، وتأجج الصراعات في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، بل إنه كان مُحدداً بعدة أهداف مرحلية مثَّل تحقيقها تغيراً جوهرياً ليس في الاستراتيجية العسكرية الروسية فحسب، بل أيضاً في طبيعة التوازانات السياسية على الأرض السورية.
فقد سبق أن أعلن بوتين أن هدفه من التدخل هو تثبيت سلطة نظام الأسد في سوريا، وخلق ظروف تساهم في التوصل إلى تسوية سياسية للأوضاع هناك. وفي هذا الشأن، تمكنت القوات السورية، بمساعدة الطيران العسكري الروسي، من استعادة السيطرة على مساحة تزيد على ١٠ آلاف كيلو متر مربع، و٤٠٠ بلدة في سوريا. وساهم هذا الأمر في إعادة بشار الأسد مرة أخرى إلى المشهد السياسي السوري، وعرقلة محاولات إسقاطه من جانب فصائل المعارضة السورية، حيث رفض الأسد ونظامه مناقشة بند رحيله في أي مفاوضات مع المعارضة.
كما اعتبر الرئيس بوتين، خلال حفل استقباله لعدد من الخبراء والعسكريين الذين ساهموا في العمليات الروسية بسوريا، أن من أهم الأهداف التي تم تحقيقها في سوريا هي “وقف الشر الكامل ومنع الإرهابيين من الوصول إلى روسيا”، وهو ما أشار إليه أيضاً وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، بتأكيده تمكن القوات الجوية الروسية من وقف الإمدادات للتنظيمات الإرهابية في سوريا.
وكشف بوتين عن قيام سلاح الطيران الروسي بأكثر من تسعة آلاف طلعة جوية في سوريا باستخدام أحدث الأسلحة، وإطلاق صواريخ من طراز كاليبرا من بحري قزوين والأبيض المتوسط، فضلاً عن صواريخ برية يبلغ مداها أكثر من أربعة آلاف كم، على أهداف في سوريا.
وطبقاً للتقديرات، دمرت الطائرات الروسية ٢٠٩ منشأة نفطية تابعة للتنظيمات الإرهابية في سوريا، فضلاً عن مقتل أكثر من ألفي إرهابي و١٧ قائداً ميدانياً جاءوا إلى سوريا من روسيا، في غارات الطيران الروسي على مواقع هذه المجموعات.
تفسير الانسحاب العسكري الروسي من سوريا
في ظل حالة الغموض التي سيطرت على الانسحاب العسكري الروسي غير المتوقع حالياً من سوريا، يمكن الإشارة إلى عدد من الأسباب والدوافع التي ربما تفسر هذا اللغز الروسي، ومنها ما يلي:
1- التكلفة الاقتصادية للتدخل العسكري؛ حيث كشف الرئيس الروسي أن معظم عمليات قواته في سوريا تم تمويلها من ميزانية وزارة الدفاع الروسية، مُتحدثاً عن ميزانية تبلغ 33 مليار روبل (نحو 482 مليون دولار). وبرر بوتين انسحاب معظم قواته من هناك بأن بقاءها بات مكلفاً وغير مبرر في ظل الهدنة.
وتأتي هذه التكاليف العسكرية في وقت يتراجع فيه الاقتصاد الروسي بشكل حاد؛ نتيجة لانخفاض أسعار النفط من ناحية، وللعقوبات الاقتصادية المفروضة عليه من الاتحاد الأوروبي جرَّاء الصراع في أوكرانيا، من ناحية أخرى. وقد أدت هذه الضغوط الاقتصادية إلى هبوط العملة الروسية “الروبل”، وإفلاس عدة مصارف كبرى في البلاد، ومعاناة الاقتصاد الروسي من هشاشة وضعف في الأداء.
ومن ثم، فربما اتخذ بوتين قراره بسحب “الجزء الأكبر” من قواته في سوريا، تجنباً لمزيد من الضغط على الاقتصاد الروسي الذي يعاني مشكلات عديدة.
2- الضغط على “الأسد” للقبول بالتسوية السياسية؛ خاصةً مع ظهور مؤشرات في الفترة الأخيرة على خلافات روسية – سورية، منها “توبيخ” الجانب الروسي للأسد إثر تأكيد الأخير سعيه إلى “استعادة كامل التراب السوري” تحت سلطته، وتصريحات وزير الخارجية السوري وليد المعلم باعتبار “مقام الرئاسة خط أحمر”، والتي مثَّلت استفزازاً للفصائل المعارضة، وكانت عائقاً أمام الوصول لتسوية سياسية.
وبالتالي، قد يكون الانسحاب العسكري الروسي بشكل رئيسي في الوقت الحالي قُبيل مفاوضات جنيف، هدفه إرسال رسالة إلى نظام الأسد مفادها رغبة موسكو في الوصول لتسوية سياسية للأزمة الراهنة بين النظام والمعارضة.
3- تجنب الدخول في حرب ممتدة في سوريا؛ وهي الحرب التي تستنزف الاقتصاد الروسي من ناحية، وتؤثر سلباً على صورة ومكانة موسكو في النظام العالمي؛ فضلاً عن السعي قدر الإمكان إلى تحقيق الأهداف المرجوَّة من التدخل العسكري دون التورط في “فخ أفغاني” جديد.
4- استمرار التصعيد العسكري في شرق أوكرانيا خلال الفترة الأخيرة؛ وعدم قدرة القوات الروسية على المحاربة على جبهتين في ظل ضعف الاقتصاد الروسي الحالي، فضلاً عن خطر تنظيم داعش والجماعات المتشددة في منطقة آسيا الوسطى، والذي تحتاج روسيا إلى التعاطي معه بحسم وباستراتيجية واضحة تجفف منابعه.
5- استعادة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والدول الفاعلة في إقليم الشرق الأوسط؛ حيث يمثل انسحاب معظم القوات الروسية في الوقت الحالي، مدخلاً هاماً وفرصة جوهرية لموسكو لاستعادة علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، وعدم تجديد العقوبات على الاقتصاد الروسي في يونيو القادم، وهي العقوبات المفروضة على موسكو بعد ضم شبه جزيرة القرم.
كذلك من شأن الانسحاب أن يُظهِر بوتين كصانع سلام، وأن يُجنب روسيا مزيد من الخلافات مع قوى إقليمية، مثل السعودية وتركيا، بسبب سوريا؛ خاصةً في ظل التوترات الأخيرة بين موسكو وأنقرة جرَّاء إسقاط تركيا لإحدى المقاتلات الروسية.
تداعيات الانسحاب العسكري الروسي
مما لاشك فيه أن روسيا ساهمت في إعادة بشار الأسد إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى، وأجبرت دول العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، على احترام المصالح الاستراتيجية لروسيا في منطقة الشرق الأوسط، وأبرزت، من خلال تدخلها العسكري في سوريا، أنها قادرة على الدفاع عن مصالحها حتى لو كانت خارج نطاق الجوار الروسي، وهو ما لم تقم به منذ نهاية الحرب الباردة.
بيد أن ثمَّة حقيقتين ينبغي أخذهما في الاعتبار؛ الأولى أن الرئيس الروسي حينما أعلن الانسحاب قال “أن أهداف الحملة العسكرية قد تحققت بشكل عام”، بما يعني أنه سيُبقي الباب مفتوحاً نحو استكمال المهمة لاحقاً إذا تطلب الأمر، وهو ما يتزامن مع حالة التشكيك من جانب بعض الدول الغربية في حقيقة انسحاب القوات الروسية من سوريا.
جدير بالذكر أن مسؤولين روس أكدوا على بقاء قوات لهم في سوريا بالقاعدة الجوية في “حميميم”، والقاعدة البحرية في “طرطوس”، إضافة إلى منظومة صواريخ الدفاع الجوي المتطورة “إس- 400”.
أما الحقيقة الثانية، فهي أن انسحاب روسيا قد وضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليته الأخلاقية والسياسية في إيجاد حل للأزمة السورية، ومن ثم لن يكون الضغط على جانب الأسد فقط، بل إنه سيؤدي للضغط على فصائل المعارضة السورية في المفاوضات أيضاً.
ويعني هذا الأمر أن المفاوضات الجارية بين النظام السوري والمعارضة، ستركز على النقاط التالية:
1- التسوية السياسية: بحيث يتم الاستمرار في الهدنة ووقف إطلاق النار بين الأطراف المتنازعة؛ واستمرار الحوار بين الأسد والمعارضة السورية تحت رعاية الأمم المتحدة من أجل عملية سياسية تقود إلى تشكيل حكومة غير طائفية، ولا تقصي أحداً، يعقبها وضع دستور جديد، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بحيث تنتهي استحقاقات العملية السياسية في ديسمبر 2017.
2- مسار محاربة الإرهاب: بحيث يتم التركيز فيه على توحيد وتنسيق الجهود الدولية لمحاربة التنظيمات الإرهابية، بعد الاتفاق على تصنيف دولي لهذه التنظيمات، ووضع استراتيجيات مشتركة لكيفية التصدي لها بشكل جماعي.
بيد أن ثمة مخاوف من بعض العقبات التي قد تؤثر على مسار المفاوضات السورية، ومواقف القوى الإقليمية منها، خلال الفترة القادمة، ولعلَّ أبرزها ما يلي:
أ- احتمالية تقسيم سوريا وفقاً لنظام فيدرالي، وهو الاقتراح الذي طالما نادى به الأكراد، من خلال حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بحيث يتم تأسس دولة كردية على الحدود السورية، إذ يسيطر مسلحو وحدات حماية الشعب الكردية على أراض تمتد لـ400 كليو متر على طول الحدود السورية مع تركيا، وتسيطر القوات الكردية أيضاً على أجزاء منفصلة على الحدود الشمالية الغربية، في منطقة عفرين.
ويثير مقترح “فدرالة سوريا”، الذي رأته روسيا صيغة محتملة للحكم في البلاد، مخاوف العديد من الدول الحدودية مثل تركيا وإيران.
وجدير بالذكر أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لا يشارك في المفاوضات الجارية في جنيف، نتيجة للرفض التركي، باعتباره، من وجه نظرها، امتداد لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض تمرداً جنوب شرقي تركيا، وتصنِّفه أنقرة ودول غربية تنظيماً إرهابياً.
ب- تباين مواقف القوى الإقليمية، فإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق يُرضي جميع الأطراف الإقليمية وبالتحديد تركيا والسعودية من جانب، وإيران من جانب آخر، فإن احتمالات التصعيد مستقبلاً في سوريا ستكون كبيرة في ظل سعي إيران إلى ملء الفراغ الذي قد تتركه روسيا من ناحية، وفي ضوء تلويح السعودية وتركيا بالتدخل العسكري البري ضد نظام الأسد من ناحية أخرى، وهو ما من شأنه أن يُحدِث تأزيماً للأوضاع في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
ج- الخلافات بين فصائل المعارضة، وعدم القدرة على تقديم بديل، حيث إن هذه الخلافات حول المرحلة الانتقالية وشكل نظام الحكم، قد تُعقِّد المفاوضات، وتحول دول الوصول إلى رؤية شاملة للأوضاع خلال الفترة القادمة، كما أن عدم توحد المعارضة قد يطرح أزمة وجود البديل لبشار الأسد– حال الاتفاق على رحيله.
إجمالاً، تتعدد التفسيرات وراء سحب روسيا معظم قواتها من سوريا بشكل مفاجئ، وتبقى الدوافع الحقيقية لهذه الخطوة غير مؤكدة حتى الآن، رغم إعلان بوتين، “أستاذ المراوغة”، أن الانسحاب من سوريا جاء بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار هناك، وما تبعه من تقليص عدد الطلعات الجوية الروسية إلى نحو الثُلث.
وربما تكشف الأيام القادمة عما إذا كان قرار بوتين بسحب الجزء الأكبر من قواته في سوريا مُقدمة لتسوية سياسية بين الأسد والمعارضة السورية، أو أنه يأتي في إطار صفقة أشمل بين روسيا والولايات المتحدة. لكن المؤكد أن موسكو ستواصل المناورة في الشرق الأوسط، ومناطق نفوذها الأخرى، مُستغلة ما حققته من مكاسب في سوريا، بعدما أثبتت أنها قوة لا يمكن تجاهلها في أي تسويات إقليمية قادمة.
باسم راشد
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة