فاجأ فلاديمير بوتين العالم بدخوله سوريا وفاجأهم بانسحابه منها، فهل جاءت حملته العسكرية بنتائج محددة سواء بالنسبة لسوريا أو روسيا نفسها أم كانت إحدى مغامرات رجل الـ”كي جي بي” في الكرملين? خاض بوتين ثلاثة مواجهات منذ قدومه إلى سدة الرئاسة (الشيشان وجورجيا وأكرانيا) وكسبها جميعا، ولم يكن تدخله العسكري في سوريا استثناء.
الحقيقة الواضحة للعيان هي أن التدخل الروسي أوقف انهيار النظام الروسي ولو مؤقتا، وهو ما لم يستطع إنجازه التدخل الإيراني سواء المباشر أو من خلال حزب الله، فبعد التدخل الروسي استعاد النظام كامل اللاذقية وتم ربطها بحلب واستعاد أجزاء من حمص وحماةواستعاد السيطرة على قاعدة كويرس العسكرية ومدينة تدمر.
نجاح بوتين بالتدخل على هذا الصعيد يظهر في توقيت الانسحاب، فلم يكن بإمكانه تحقيق إنجازات جوهرية لصالح النظام أكثر مما حققه، فمهما استمر التدخل الروسي فلن يكون بمقدوره القضاء تماما على المعارضة -معتدلة كانت أم متطرفة- أو استعادة كامل التراب السوري كما أصبح يحلم النظام الذي صدم الانسحاب الروسي وعيه.
“نجاح بوتين في سوريا يظهر في توقيت الانسحاب، حيث لم يعد بإمكانه تحقيق إنجازات لصالح النظام أكثر مما حققه، فمهما استمر التدخل الروسي فلن يكون بمقدوره القضاء تماما على المعارضة، أو استعادة كامل التراب السوري كما أصبح يحلم النظام الذي صدم الانسحاب الروسي وعيه”
صحيح أن التدخل الروسي فاجأ الكثيرين، ولكنه بالتأكيد لم يفاجئ سيد البيت الأبيض باراك أوباما، فالتدخل الروسي حصل بضوء أخضر أميركي والانسحاب جاء أيضا بضوء أخضر وتنسيق أميركي.
إن المكسب الرئيسي الذي حققه بوتين نتيجة تدخله في سوريا هو تعزيز المكانة الدولية لروسيا في النظام الدولي وعلاقتها بالأطراف الفاعلة فيه مثل الولايات المتحدة وأوروبا بالتحديد، فقلبه لموازين القوى على الأرض وانسحابه قبل مباحثات جنيف بيوم واحد كان إشارة واضحة لعدم رضاه عن أجندة نظام الأسد غير الواقعية، حيث أثبت بوتين أنه الوحيد القادر على إعادة الحياة للنظام من خلال تدخله العسكري، وأنه أيضا الوحيد القادر على عقلنة أجندته المتطرفة والضغط عليه للدخول في مفاوضات جدية بعيدة عن تصريحات المعلم وبشار الجعفري التي سبقت المفاوضات بإجراء انتخابات برلمانية فقط واستثناء الرئاسة منها.
بذلك أثبت بوتين لنظرائه أركان النظام الدولي أنه العنوان الصحيح والوحيد لعلاج أزمات استعصى حلها على رؤساء أوروبا التي ترزح بلادهم تحت موجات الهجرة التي وقفوا عاجزين عن أي عمل حيالها، بل أصبحت تهدد عروشهم كما حدث في خسارة انتخابات حزب أنجيلا ميركلفي ولايتين من أصل ثلاثة أمام حزب البديل من أجل ألمانيا المناهض للهجرة.
النقطة المرجعية لحسابات بوتين السياسية هي النظام الدولي بتشعباته وملفاته المتعددة، وسوريا ليست أكثر من ورقة بالنسبة له يستخدمها أيضا للتأثير في أوراق أخرى عالقة بينه وبين الغرب مثل أوكرانيا وجورجيا وأنظمة الدفاع الصاروخي وغيرها، وهذا -مثلا- بعكس إيران التي تعتبر النظام الإقليمي مرجعيتها السياسية وكيف يمكن لها أن تضغط على السعودية من خلال سوريا.
بإثباته أنه رجل الحرب ورجل المفاوضات في سوريا جعل نظراءه في أوروبا وأميركا يتناسون عن الأزمة التي كادت أن تقطع شعرة معاوية بينهم وبينه قبل شهور والمتمثلة في أزمة أوكرانيا، فمن منا اليوم يتحدث عن جزيرة القرم أو يطالب بوتين بالانسحاب منها؟
وحتى أوباما عند سؤاله عن أوكرانيا في مقابلته مع مجلة الأتلانتيك أجاب بأن “أوكرانيا ستبقى دوما عرضة للهيمنة العسكرية من قبل روسيا مهما فعلنا”، وعليه فقد عمل بوتين بتدخله بسوريا انطلاقا من مبدأ أن الطريق إلى أوكرانيا -وملفات دولية أخرى- يمر عبر سوريا.
يشار إلى أن نجاحات متزايدة لبوتين في علاقاته مع الغرب ستعمل رويدا رويدا على دفع النظام الدولي للتحول باتجاه تعدد الأقطاب وإنهاء حالة الأحادية القطبية التي سيطرت بموجبها الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وما حققه من التدخل في سوريا هو ورقة بهذا الاتجاه.
“لعل أخطر ما تمخض عنه التدخل العسكري الروسي هو طرح الفيدرالية في سوريا كأساس للحل أكثر من أي وقت مضى، بل إن حزب الاتحاد الديمقراطي والمقربين منه سارعوا بعد انتهاء العملية إلى إعلان فيدرالية في شمال سوريا وبالتحديد في المناطق ذات الأغلبية الكردية”
بالانسحاب العسكري من سوريا في هذه اللحظة وازن بوتين في علاقاته مع دول المنطقة وبالتحديد مع المملكة العربية السعودية ورفض الانجرار نحو صراع يتم فيه اختصار دور روسيا من دولي إلى إقليمي يناصر طرفا على طرف.
ولا يستبعد هنا أن يكون للنشاط الدبلوماسي الخليجي خلالالتدخل العسكري الروسي في سوريا دور في القرار النهائي لبوتين بالانسحاب العسكري والضغط على الأسد للدخول في مفاوضات جدية، فخلال الأشهر الماضية كانت هناك زيارات على مستوى القيادات السعودية والقطرية بالتحديد، الأمر الذي يذكر بالتفاهم الروسي السعودي القطري في فبراير/شباط الماضي للحد من إنتاج النفط في مسعى لإعادة العافية لأسعار البترول.
كذلك فقد أكد نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي يفغيني لوكيانوف أنه من أجل نجاح التسوية بعد العملية العسكرية في سوريا فلا بد من مشاركة فعالة للمملكة العربية السعودية.
هناك مكاسب أخرى حققتها روسيا من عمليتها العسكرية في سوريا مثل تعزيز إطلالتها الإستراتيجية على البحر المتوسط من خلال قواعدها العسكرية ونشر صواريخ متطورة مثل نظام S-400، وكذلك ما صرح به لوكيانوف بأن العملية العسكرية أتاحت خبرة حقيقية للقوات الروسية لم تكن لتحصل عليها من خلال التدريبات العسكرية.
ولعل مثل هذا التصريح يظهر انعدام الجانب الأخلاقي في التأثير في القرارات الدولية السياسية والعسكرية، إذ ليس من المهم بالنسبة للوكيانوف أن يدفع الشعب السوري ثمن هذه العملية من دماء أبنائه، ولكن الإنجاز الذي يذكره هو وجود فرصة فعلية لاكتساب خبرات عسكرية للقوات الروسية.
ربما يكون أخطر ما تمخض عنه التدخل العسكري الروسي هو طرح الفيدرالية في سوريا كأساس للحل أكثر من أي وقت مضى، بل إن حزب الاتحاد الديمقراطي والمقربين منه سارعوا بعد انتهاء العملية إلى إعلان فيدرالية في شمال سوريا وبالتحديد في المناطق ذات الأغلبية الكردية.
كذلك فإن الموقف الروسي نفسه هو من أصبح يدفع باتجاه الفيدرالية من أجل توفير ملجأ قد يكون أكثر أمانا للنظام وتحديدا في المناطق العلوية، وفي الوقت ذاته يخدم الوجود الروسي في قواعده العسكرية على الساحل السوري في طرطوس واللاذقية.
يشار إلى أن بوتين لم يغلق ملف إسقاط الطائرة الروسية مع تركيا، وما زال يخوض حربا باردة مع أنقرة، أحد أوراقها تعزيز القوة الكردية وبالتحديد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي ينظر إليه كفرع لحزب العمال الكردستاني التي تعتبره تركيا منظمة إرهابية، ويهدد دوما بالانفصال.
“الحل في سوريا ليس فيدراليا على الأقل في هذا الوقت وضمن المعطيات الطائفية والعرقية الحالية التي عززتها الحملة العسكرية الروسية. الحل يكون بدولة القانون والمواطنة التي يتساوى فيها جميع الأفراد في الحقوق والواجبات وتمنح الجميع تكافأ في الفرص بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الطائفي أو الحزبي”
الفيدرالية بحد ذاتها ليست نظاما سياسيا فاشلا، فهناك أكثر من عشرين دولة تقوم على نظام فيدرالي من ضمنها الولايات المتحدة وألمانيا وحتى روسيا، ولكن الفيدرالية في سوريا تستدعي أكثر من مشكلة، وقد تشكل كارثة بالنسبة لمستقبل سوريا السياسي، وذلك لعدة اعتبارات منها:
أولا: أي فيدرالية قد تنشأ بعد الصراع الدموي الذي استمر أكثر من خمس سنوات حتى الآن قد تشكل بداية حقيقية لتقسيم سوريا، إذ لن يكون من السهولة بمكان تجاوز التاريخ الدموي الذي امتد إلى مكونات المجتمع السوري وليس القيادات السياسية لوحدها.
الفيدرالية في هذه الحالة قد تتحول إلى “تقسيم مقنع” قد يزول القناع عنه في السنوات القليلة التي تلي أي اتفاق، لتتحول إلى تقسيم حقيقي.
ثانيا: أي فيدرالية قد تنشأ في سوريا في هذا الوقت ستكون قائمة على أصول عرقية (كردية) وطائفية (علوية، درزية) وغيرها، وهو ما سيضعف الدولة السورية إستراتيجيا وبنيويا. سوريا بهذه الحالة لن تساوي مجموع مكوناتها، وإنما مكونات غير مترابطة تفتقد لوظيفتها كالدولة الفيدرالية في الولايات المتحدة أو ألمانيا التي لا تقوم على أساس طائفي أو عرقي وإنما جغرافي مرتبط بقوانين وتشريعات وذات تمثيل مؤسساتي بالحكومة الفيدرالية التي هي أقوى من أي تجمع آخر في الدولة.
الحل في سوريا ليس فيدراليا على الأقل في هذا الوقت وضمن المعطيات الطائفية والعرقية الحالية التي عززتها الحملة العسكرية الروسية، الحل يكون بدولة القانون والمواطنة التي يتساوى فيها جميع الأفراد في الحقوق والواجبات وتمنح الجميع تكافأ في الفرص بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الطائفي أو الحزبي.
إن وجود نظام سياسي جديد في سوريا يقوم على المساءلة والحكم الجيد والشفافية هو الضامن لبناء سوريا بأيدي أبنائها ولأبنائها، وليست سوريا هشة قائمة على تقسيم “مقنع” أفرزته أو على الأقل عززته الحملة العسكرية الروسية.
أخيرا يجب التذكير بأن الانسحاب العسكري الروسي غير الكلي لا يعني أبدا تخلي بوتين كليا عن حليفه بشار الأسد، وإن كان قد ضغط عليه لتقنين مطالبه في مفاوضات جنيف ولتعزيز موقعه في النظام الدولي لمواجهة نظرائه في أوروبا وأميركا.
إبراهيم فريحات
الجزيرة نت