يحتار المرء في معرفة كيف لقوّة عالمية مثل الولايات المتّحدة الأمريكية مع ما تدّعي حمله من قيم ومبادئ أن تفرز شخصا بمستوى دونالد ترامب، لا يكتفي بمجرد المشاركة الشكليّة في الانتخابات الرئاسية، وإنما يصل إلى مراحل متقدّمة منها.
تخيّل كيف سيكون الوضع عليه لو أنّ مثل هذا الشخص بات يجلس في البيت الأبيض، ويتّخذ قرارات لا تؤثر على وضع الأمريكيين فقط، وإنما على العالم بأسره! لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق حقيقة، هو “كيف استطاع مثل هذا الشخص الوصول ولماذا؟”، الجواب يكمن في شخص أوباما نفسه.
ترامب هو النتيجة الطبيعية لكل الهراء الداخلي والخارجي الذي مارسه أوباما على مدى سبع سنوات. وكما كان أوباما نفسه هو الرد على سياسات بوش الابن (كما يؤكّد أوباما نفسه)، فمن الطبيعي قبول تطبيق التفسير ذاته عليه أيضا.
الشعار الأساسي لحملة دونالد ترامب هو “لنجعل أمريكا عظيمة مرّة أخرى”، وهو الشعار الذي جذب عددا هائلا من المصوّتين، رغم التوجهات العنصرية والعدائية، بل الفاشيّة، التي يرفعها دونالد ترامب بوجه “الآخر”، الذي لا ينتمي إلى دائرة “الرجل الأبيض” الذي يمثّله.
التفسير الوحيد لجذب مثل هذا الشعار لشريحة واسعة من الأمريكيين، هو إحساسهم بأنّ الولايات المتّحدة لم تعد عظيمة كما كانت، وهو أمر مفهوم في ظل حقيقة السياسات السلبية والضعيفة والهزيلة لأوباما طيلة الأعوام السبعة الماضية على الصعيد الداخلي والخارجي.
لم تؤد سياسة أوباما القائمة على شعار “لا تفعل شيئا أحمق” أو “لا ترتكب عملا غبيّا” -في إشارة إلى سياسات بوش الابن السابقة- إلاّ إلى إستقواء الخصوم والأعداء حول العالم، وفقدان ثقة الشركاء والحلفاء، وتراكم المشاكل والتحدّيات.
وقد بدا أنّ شعار أوباما “لا تفعل شيئا أحمق” قد تحوّل في الحقيقة إلى “لا تفعل شيئا على الإطلاق”، وهو الأمر الذي لم ينف في المحصلة وفق كثيرين صفة السذاجة والضعف والانهزامية والنفعية عن سياسات أوباما.
بدا أنّ تركيز أوباما كان محصورا خلال السنوات الماضية على عدم الاقتراب من الألغام والقنابل الموقوتة، بدلا من صرف الوقت والجهد على تفكيكها، وقد انتهى الأمر بهذه السياسة بأن انفجر الكثير من هذه القنابل حول العالم، الأمر الذي أدى إلى ظهور الولايات المتّحدة بمظهر الدولة الضعيفة المترددة العاجزة.
فضلا عن أنّ الوعود التي كان أوباما قد قطعها مع وصوله إلى البيت الأبيض انتهت إلى كوارث في سوريا والعراق واليمن وأوكرانيا، وبحر الصين، وأماكن أخرى كثيرة حول العالم. ويبدو أنه سيسلم السلطة لمن بعده، والعالم أسوأ حالا مما كان عليه قبل وصوله إلى سدّة البيت الأبيض.
هذا على الصعيد الخارجي، أمّا على الصعيد الداخلي، فالأمر لا يقل سوءا، اذ شهت الولايات المتحدة في عهد أوباما تجاذبا حزبيا غير مسبوق على الإطلاق، وصل حد تعطيل البلاد والمؤسسات الرسمية في مناسبات عدّة، كما أنّه عزز من النزعة التسلّطية وحصر عملية صناعة القرار في دائرة ضيّقة من المستشارين المقربين على حساب المناصب الرسمية الأخرى بشكل غير مسبوق، ما دفع أكبر عدد من المسؤوليين الرسميين إلى الاستقالة في عهده، لأنهم لم يكونوا يستطيعون تبرير سياساته، فضلا عن الاستمرار في قبول طريقة تعاطيه معهم.
أمّا على الصعيد الاقتصادي، فقد يبدو للبعض أن الوضع الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية آخذ في التحسّن، لكنّ ذلك يجب أن يُذكر إلى جانب حقيقة أخرى، هي أنّ أوباما سيغادر البيت الأبيض مع 20 تريليون دولار هي حجم الدين العام الكلّي، نصفها تقريبا خلال عهده. أي أن الدين العام الأمريكي قد تضاعف في عهد أوباما، مقارنة بما كان عليه إبّان عهد بوش الابن!
ولا شك عندما نأخذ كل هذه المعطيات الداخلية والخارجيّة الأمريكية خلال عهد أوباما بعين الاعتبار، مضافا إليها صور من قبيل استهزاء دول مثل كوبا بالرئيس الأمريكي، وتلذذ دول أخرى مثل إيران بالإهانة الإعلامية للبحارة الذين احتجزوا لديها، وتجاهل دول مثل روسيا والصين لموقع ودور الولايات المتّحدة في العالم، فمن الطبيعي جدا أن يجذب حينها شعار ترامب “لنجعل أمريكا عظيمة مرّة أخرى”، الملايين ممن يشعرون بأن أمريكا لم تعد عظيمة.
وعلى الرغم من هذه الحقائق، يصر أوباما بكل سذاجة على أنه لا يتحمل مسؤولية إفراز “دونالد ترامب”، وأنّ وجود شخص مثل ترامب تحت الأضواء سببه انهيار الحزب الجمهوري وإفلاسه.
كلام أوباما في هذا السياق عن انهيار الحزب الجمهوري قد يكون صحيحا، ربما بشكل جزئي، لكن ترامب لم يكن يوما جمهوريا على الإطلاق، بل كان أقرب إلى الديمقراطيين، ومقربا جدا من العديد من قياداته، ولم ينضم إلى الحزب الجمهوري إلا قبل فترة قصيرة جدا من بدء الانتخابات، لأنّه رأى في ذلك فرصة أكثر مما هو تعبير عن انتماء حزبي.
والجمهوريون أنفسهم يعتبرونه متطفلا ومخربا لقيم حزبهم. لكن حتى لو تجاهلنا كل هذا الكلام، فمن قال إنّ وضع الحزب الديمقراطي أفضل حالا اليوم؟! وهل مشهد ساندرز مترشحا عن هذا الحزب للرئاسة الأمريكية هو مشهد مرض؟!