لا شك أن التعرف على طبيعة الخطاب الإرهابى ومعالمه الأساسية قد يساعدنا فى صياغة الخطاب السياسى والثقافى والفكرى المناهض للإرهاب والتطرف، وبداية فإن الخطاب الإرهابى باعتباره خطابا دينيا فرعيا يستمد مفاهيمه وملامحه من الخطاب القطبى، أى تلك المفاهيم والأطروحات التنظيرية التى قدمها سيد قطب، الذى يعتبر صاحب أكبر الاجتهادات النظرية فى تاريخ الإخوان المسلمين، ولم تكن المفاهيم القطبية جديدة تماماً، بل استمدها واستوحاها واقتبسها من ابن تيمية وأبو الأعلى المودودى وآخرين، ولكن طوعها للظروف التى واكبت صراع جماعة الإخوان المسلمين مع ثورة 23 يوليو عام 1952 فى الخمسينيات والستينيات خاصة فى مؤلفيه «فى ظلال القرآن» و»معالم فى الطريق»!
شكلت مفاهيم «الحاكمية لله» و»المجتمع الجاهلى» النواة الأساسية لفكر وأيديولوجية الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية بدءا من جماعة التكفير والهجرة، وجماعة الفنية العسكرية وغيرهما من الجماعات الجهادية والتكفيرية، فالدولة التى تطبق قوانين وقواعد وأحكاماً من صنع البشر ودون استناد إلى القرآن والسنة وأحكامهما هى دولة كافرة وجاهلية، وكذلك المجتمع الذى تحكمه فهو يمثل الجاهلية المعاصرة، التى تعادل الجاهلية الأولى وبما أن الدولة كافرة والمجتمع جاهلى فقد حق الجهاد ضدهما بهدف الاستيلاء على السلطة لإقامة المجتمع الإسلامى والحكم بما أنزل الله والبدء بأسلمة المجتمع. ويمكن فى هذا السياق ملاحظة أن عديدين ممن صاغوا الخطاب الإرهابى والتكفيرى كانوا أعضاء ومنتمين للإخوان، ورافق بعضهم الإخوان فى السجون والمعتقلات، ورفضوا بعض الدعاوى الإصلاحية للإخوان وانشقوا عليهم، وشكلوا التنظيمات المتطرفة والإرهابية.
يتميز الخطاب الإرهابى الذى ينسب نفسه إلى الإسلام بمفاهيم محددة تمثل البنية الفكرية والعقائدية والأيديولوجية التى ينطلق منها من بينها الخصائص الآتية:
1- القداسة والإطلاق: فهذا الخطاب وبما أنه ينسب للدين الإسلامى أو ينسب نفسه إليه، يزعم أصحابه أنه خطاب مقدس لأنه دينى ويستمد مفاهيمه من التأويلات والتفسيرات التى لا تمثل بالضرورة التيار الرئيسى والسائد فى الفقه والتفسير ومع ذلك فهو يزعم لنفسه القداسة، التى تميزه عن غيره من الخطابات الوضعية التى يصوغها العلمانيون والليبراليون والقوميون واليساريون، فهذه الخطابات لا تنتسب للدين وواضعوها غير مؤمنين لأنهم يريدون فصل الدين عن الدولة ويدعون لتطبيق المفاهيم والثقافة الغربية.
2- دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية: يمثل هذا المفهوم فى الخطاب الإرهابى حجر الزاوية فى التكتيك والاستراتيجية، التى تهدف إلى إقامة دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية تطبق الشريعة والأحكام ومرجعيتها «أن لا حكم إلا لله» كما قال الخوارج وهو القول الذى وصفه ورد عليه على بن أبى طالب رضى الله عنه بأنه «قوله حق يراد بها باطل». وهذا المفهوم يمكن اعتباره «المدينة الفاضلة» فى خطاب الإرهابيين التى تحكم بما أنزل الله، أما الدولة الوطنية القائمة فهى دولة كافرة ويحكمها الطاغوت، وتحكم بشرائع وقوانين وضعية لا علاقة لها بالدين.
3- العنف: الخطاب الإرهابى يمجد العنف باعتباره الوسيلة الوحيدة لإقامة الدول الإسلامية، فالعنف فى هذا الخطاب هو عنف مؤسسى وتأسيسى، لكافة ممارسات الإرهابيين والمتطرفين ما دام الهدف هو إقامة الحكم الإسلامى، وفق الأحكام الدينية والشرعية، فالغاية تبرر الوسيلة، والإصلاح والدعوة لا يكفيان لتحقيق هذا الهدف مع المجتمع الجاهلى والدولة الكافرة.
4- الطابع الثنائى: يزخر الخطاب الإرهابى بثنائيات متعارضة ومتناقضة تناقضا حادا وصارخا ويخلو من التعددية والتنوع، فالعالم منقسم فى هذا الخطاب إلى «دار الحرب» و»دار السلام» و»دار الكفر» ودار الإيمان» والدولة الإسلامية والدولة الكافرة والإسلام والجاهلية وفسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، وغير ذلك من الثنائيات الممتدة والتى تتخذ طابعا تناحريا وصراعيا ينحو منحى أبديا لا نهاية له ولا يلتقيان على أى وجه.
هذه الثنائيات من شأنها اختزال التنوع فى الأديان والثقافات والعقائد، وأيضا تبسيط طبيعة العمران البشرى وإنكار قوانينه وسننه المعروفة تاريخياً، وذلك بهدف مخاطبة عامة المسلمين والفئات المستهدفة بالتجنيد والحشد والعضوية فى هذه التنظيمات المتطرفة. كما أنه من شأن هذه الثنائيات المتناقضة تشكيل النواة الفكرية التى تسوغ العنف والقتل والتخريب والصراع والفتن.
5 – التنكر للحاضر والمستقبل واستعادة الماضى: يتمحور الخطاب الإرهابى للجماعات المتطرفة حول ضرورة استعادة الماضى الإسلامى، وخاصة حقبة معينة من هذا الماضى، ألا وهى فترة حكم الخلفاء الراشدين الأربعة، التى دامت نحو ثلاثين عاما من عمر الدعوة الإسلامية والإسلام والذى يمتد لألف وأربعمائة وسبع وثلاثين عاماً. هذه الفترة هى النموذج والقدوة والمدينة الفاضلة فى الخطاب الإرهابى والدعاوى الإرهابية، أما التاريخ الإسلامى الممتد لنحو خمسة عشر قرنا فلا تحظى أية فترة فيه بهذه المكانة، ويسقط هذا الخطاب من اعتباره ازدهار العلوم والحضارة الإسلامية وتراث العقلانية المعتزلى والرشدى وانفتاح العقل الإسلامى على الحضارة اليونانية والفارسية والهندية. ومن ثم فإن حاضر ومستقبل المجتمعات الإسلامية والعربية يسقط من هذا الخطاب.
هذه النظرة تمتاز بالانتقائية واللا تاريخية فهى تتجاهل وتسقط عمدا الوقائع المتعلقة بتاريخ هذه الفترة، بهدف تنزيهها وتقديسها، فى مواجهة هذا الخطاب الأحادى والمغلق ينبغى صياغة خطاب مدنى ديموقراطى يحفظ للدين قداسته بعيدا عن عالم السياسة والتى يصوغ قواعدها المواطنون الأحرار باعتبارها شأنا وضعيا نسبيا اجتماعيا، ويؤكد على التنوع باعتباره مصدرا للثراء والغنى وليس تهديدا وباعتباره سنة كونية على مدار التاريخ انطبقت على المجتمع الإسلامى والدعوة الإسلامية ذاتها.
خطاب الدولة المدنية الديموقراطية التى تؤكد مبدأ المواطنة بصرف النظر عن الانتماءات الدينية والمذهبية هو الخطاب الذى بمقدوره كشف تناقضات وعدمية ووحشية الخطاب الإرهابى وعدائه للإنسانية والعمران البشرى.
تطوير خطاب دينى جديد يكشف تناقضات الخطاب الإرهابى ويفكك مقولاته ويفضح خطورته على الأمة وتماسكها وعلى البشرية والمشترك الإنسانى بين كافة الثقافات والأديان.
د. عبد العليم محمد
نقلا عن الأهرام