استطاع حيدر العبادي تثبيت نفسه رئيساً للوزراء متجاوزاً الحملة التي قادها ضده مقتدى الصدر، لكن هل يستطيع النجاة بالعراق من الفساد المستشري (هذا شعار حكومته الجديدة) في مؤسسات الدولة وداخل الأحزاب الطائفية والمذهبية؟
لم يؤسس النظام العراقي الجديد خلال الاحتلال (العراق ما زال محتلاً) على أسس وطنية ولم يكن الذين اختيروا لإدارة الدولة على دراية بالحكم. معارضة الخارج كانت تتسابق على شتم الديكتاتورية، إبداء الولاء للخارج، وكلما علا صوتها واستطاعت إثبات ولائها لهذا الخارج كلما أصبحت ذات حظوة لديه واقتربت من تولي السلطة التي تحولت إلى تجمع من الكتل (ليس بالمعنى الغرامشي) بل بالمعنى المذهبي والعشائري. كل عشيرة، أو حزب يحاول، غزو حمى الآخر لمزيد من الغنائم يوزعها على أفراد القبيلة، تماماً مثلما يفعل زعماء العشائر ليحافظوا على نفوذهم. تكرس هذا النمط من الحكم في الدستور الذي صيغ بإشراف أميركي مباشر (عرابه بريمر) وبرضا الجميع، أي الزعماء الجدد وعصبياتهم الماقبل الدولة. وهكذا أصبح المجتمع تجمعات متناحرة همها الاستيلاء على المؤسسات المشتركة وتقاسمها وليس تطويرها لمصلحة الجميع. أي أن قانون الغلبة (بتعبير ابن خلدون) يتحكم بالصراع، وليست المنافسة الديموقراطية على ما يدعي منظرو هذا البؤس.
ولربما كانت ظاهرة مقتدى الصدر أفضل مثال على هذا الواقع. الرجل حفيد الصدريين الذين كان لهم دور كبير في «إحياء»الإسلام السياسي، في العراق وفي إيران أيضاً (نظرية الخميني في الحكم أساسها ما كتبه محمد صادق الصدر). ومزج آل الصدر العصبية الدينية بالعصبية العشائرية. وهنا قوة مقتدى الذي يتحدى «التحالف الوطني» الشيعي ويتفرد بقراراته ويهدد باجتياح المنطقة الخضراء وبـ «قلع» العبادي و «شلعه»، وإطاحة «العملية السياسية» بحجة محاربة الفساد. ومن هنا أيضاً تحديه المرجعية الدينية «الصامتة» في النجف، مضيفاً إلى هذا الموقع القوي تزعمه جماعة مسلحة حاربت الاحتلال وأصبحت الآن جزءاً من «الحشد الشعبي» الذي يمنعه الأميركيون من محاربة «داعش» في الأنبار وفي الموصل كي لا يثيروا «حساسية السنة» وحلفائهم الأكراد.
ومقتدى الصدر ليس الوحيد في هذا الموقع وإن كانت له الغلبة، فهناك عمار الحكيم وإرث جده ووالده، وهناك حزب «الدعوة» والعبادي والمالكي والجعفري الذين يتزعمونه ويخوضون صراعات للسيطرة على «التحالف». أي أن الصراع على المحاصصة واقتسام المؤسسات ونشر الفساد فيها ليس حكراً على طرف دون الآخر. الجميع شريك في اللعبة.
والأمر لا يقتصر على العرب، شيعة وسنة، فهناك صراع الأكراد في الشمال بين عشائر طالباني وبارزاني. البارزانيون (الديموقراطيون) يسيطرون على أربيل ويقتسمون السلطة بين الأب والابن والأقرباء. والطالبانيون يسيطرون على السليمانية ويقتسمونها في ما بينهم. وقد طاول الصراع، الدموي، بين الطرفين كل الشمال. ولم يستطيعا توحيد الإدارة حتى اليوم. فهناك «بيشمركة» موالية لهذا الطرف وأخرى موالية للآخر. وعندما استطاعت «حركة التغيير» المنشقة عن حزب طالباني الفوز في الانتخابات والوصول إلى رئاسة البرلمان والحصول على بعض الوزارات، طردها بارزاني من أربيل وعطل الحكومة والبرلمان.
للحصول على القوة والغلبة، خلال هذا الصراع، يلجأ الزعماء إلى استنفار العصبيات الطائفية والمذهبية والعشائرية. وحين يتعذر الأمر على أحدهم يستقوي بالخارج الحاضر الدائم في اللعبة، خصوصاً أميركا وإيران (تحاول تركيا أن يكون لها نفوذ عبر «الإخوان المسلمين»). ويصبح الجميع رهينة الماضي.
وسط هذا الكم الهائل من إرث التخلف يحاول العبادي التخلص من الفساد بحكومة «تكنوقراط» كأن هؤلاء مستوردون من الفضاء ولا ينتمون إلى طوائفهم. وكأن «الدعوة» أو التحالفين السني والشيعي، وبينهما المرجعيات ستتيح لهم الفرصة ليحدثوا العراق ويخرجوه من مأزقه.
«كل الشعوب تلد أجيالاً للمستقبل ونحن نلد آباءنا دائماً»، على ما يقول القصيمي.
مصطفى الزين
صحيفة الحياة اللندنية