تظهر الهجمات الإرهابية الأخيرة في بروكسل أن مجموعة “الدولة الإسلامية” بنت شبكة متطورة من الإرهابيين، والتي تفوق قدرات تنظيم القاعدة بكثير. وأصبحت المجموعة قادرة الآن على توجيه ضربات عبر استخدام الخلايا النائمة التي لم يتمكن المسؤولون الأمنيون في أوروبا من التعرف إليها وتحديدها حتى الآن.
يختار الإرهابيون اللحظة المواتية. فتماماً عندما كانت أوروبا تتنفس الصعداء بعد إلقاء القبض على واحد من إرهابيي باريس في أعقاب أشهر من مطاردته، أقدم المفجرون الانتحاريون على تنفيذ تفجيراتهم في بروكسل. وكانت الإشارة التي أرسلها اعتقال الإرهابي، هي أن ما تدعى “الدولة الإسلامية” قابلة للهزيمة. لكن هجوم بروكسل يقول لنا إن هذا ليس هو واقع الحال: بمجرد أن تعتقدوا أنكم ضربتمونا، سنضربكم نحن في القلب مباشرة.
يتفق المحققون وأجهزة الاستخبارات على حد سواء على أن الاستعدادات لمواجهة الهجمات التي شُنت في بروكسل لا بد وأن تكون قد بدأت منذ وقت طويل. وهكذا، مهدت تفجيرات بروكسل لنهج جديد تتبعه مجموعة “داعش” في أوروبا -واحد لا ينبئ بخير بالنسبة لأولئك الذين يحاولون منع تنفيذ أعمال الإرهاب- لأن مصدر التهديد لم يعد مقصوراً على أفراد معروفين لدى الشرطة، أو مُدرجين أصلاً في قوائم المطلوبين، وإنما يأتي التهديد أيضاً من أشخاص موجودين في الظل، في الصفين الثاني والثالث. وقد أصبح، حتى جهاديون لا يعرفهم مسؤولو الأمن، قادرين الآن على توجيه ضربات.
يعكس هذا النهج ما يستخدمه تنظيم “داعش” في ميادين معاركه في سورية والعراق. ولبعض الوقت هناك، تمكن مهاجمون غير مشتبه بهم، والذين كانوا قد تدربوا سراً، من التسلل والنفاذ إلى المناطق المستهدفة وبناء خلايا نائمة لردح طويل من الزمن. أو أنه يجري تجنيد رجال من مناطق مجاورة لهدف ما، ويظلون في الانتظار لشن الهجوم في اللحظة المواتية.
بعد نظر مدهش
كانت هذه هي طريقة العمل التي ما يزال الإرهابيون يستخدمونها لمرات عديدة ضد الخصوم البارزين الذين غالباً ما يتوافرون على دفاع جيد. وهي الكيفية التي تمكن بها “داعش” من الغدر بأبو خالد السوري، المبعوث السوري لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وقتله على يد أحد موظفيه الخاصين في وقت مبكر من العام 2014، وعلى الرغم من كل إجراءات الحماية التي كانت متوفرة في مخبئه السري.
وهناك قائد من الثوار كان قد هرب بعد أن سيطر “داعش” على الرقة، والذي اختطفه سائقه الخاص في تركيا، وكان يعمل وفق أوامر “داعش”. كما أن مؤسس الشبكة الناشطة السرية “الرقة تذبح بصمت” ذبح في شقته في مدينة سانليورفا التركية على يد عميل لمجموعة “الدولة الإسلامية”، والذي كان قد تسلل إلى صفوف المعارضين للمجموعة قبل أشهر باعتباره مؤيداً لهم.
ويثبت الناس الذين يقفون وراء هذا الإرهاب أنهم بعيدو النظر بشكل مدهش، ومخططون صبورون وليسوا لاعبين متسرعين -وهو ما ينطبق على الوضع في أوروبا وفي سورية على حد سواء. وهذا هو الجانب الجديد الذي لطالما أسيء تقييمه عن “داعش”.
يتجلى البعد الذي تذهب إليه المجموعة الإرهابية في زرع خلايا نائمة تكون أقل ترجيحاً للتعرف إليها -وهي طريقة حاول بها “داعش” التسلسل إلى القوى المعارضة له. وقد تم اختيار جميل محمود، الشاب الكردي الذي ينحدر من عفرين وكان يعمل دهاناً للأثاث في بيروت، لزجه في داخل صفوف وحدات حماية الشعب (الكردية) في المناطق السورية الشمالية التي كان قد قدم منها. وبعدما وثق مجندوه بشكل كافٍ من أنه سيعمل في خدمة مصالحهم، تم تهريبه من ميناء طرابلس إلى تركيا حتى من دون أن يبرز جواز سفره.
ومن البحر، أخذ براً لمسافة أربع ساعات، كما قال لمجلة “ديرشبيغل” لاحقاً “حتى وصلنا إلى مزرعة ضخمة معزولة، حيث كان هناك حوالي 25 رجلاً… من العرب والأتراك. وتم تدريبنا على استخدام الكلاشنيكوف ومسدسات غلوك”.
ولم يغادر هؤلاء الرجال معسكرهم. لكن منطقة غازي غناب كانت ترد غالباً في أحاديثهم. وبعد شهرين من التدريب طلب من جميل الانضمام إلى ميليشيات وحدات حماية الشعب في عفرين (والمجموعة مقربة من حزب العمال الكردستاني) وانتظار أوامر أخرى. ويقول جميل: “قالوا ببساطة إنهم سيكونون دائماً في الجوار وإنهم سيتصلون بي عندما يحين وقت العمل”. ووصل جميل إلى الحدود التركية؛ حيث سافر إلى عفرين وانضم إلى الميليشيات الكردية، حسب الأوامر. لكنه قام بعد أشهر قليلة بتسليم نفسه للسلطات التركية قبل صدور أمر له بتوجيه ضربة.
خلايا نائمة في أوروبا
يشبه سلوك “داعش” بطرق سلوك عدة وكالة أمن سرية أكثر مما يشبه سلوك متشددين. وقبل ذلك، كان تنظيم القاعدة قد التزم بأن تكون هجماته مبررة، وكانت النتيجة أنها لم تكن هناك هجمات لاحقة للتنظيم خارج ميادينه الحربية العادية في أعقاب هجمات العنف التي نفذها في نيويورك وواشنطن في العام 2001، وفي الدار البيضاء ومدريد وعمان وأمكنة أخرى. وقد تصرف تنظيم القاعدة ولم يصدر رد فعل. لكن “داعش” يبدو قادراً على إصدار رد فعل.
تكشف شهادات أدلى بها منشقون عن “داعش” عن أن هذا التنظيم الإرهابي بدأ بتأسيس خلايا نائمة في بلدان أوروبية متعددة في وقت مبكر، وفي تركيا على وجه الخصوص. ووفق مقاتلين سابقين في صفوف التنظيم، فإن هذه الخلايا تتكون من رجال ونساء ليسوا مدرجين في أي قوائم لمراقبة المطلوبين. وهذا يستطيع “داعش” التملص من نقطة الضعف التي يعاني منها العديد من أتباعه المتمركزين في أوروبا -تحديداً أولئك المعروفون بأنهم إرهابيون.
ويشار في هذا المقام إلى أن السير الذاتية للعديد من الإرهابيين متشابهة جداً: فترة مبكرة من التطرف تسبق فترة الاستعداد قبل شن هجوم. وبذلك يكون العديد منهم معروفين أصلاً لدى السلطات بأنهم خطيرون، وغالباً ما يوضعون تبعاً لذلك تحت المراقبة. ويشمل هذا الرجلين البلجيكيين اللذين أرادا في كانون الثاني (يناير) من العام 2015 مهاجمة مراكز للشرطة في بروكسل مباشرة بعد مجزرة صحيفة شارل إيبدو في باريس. وكانت الشقق والهواتف والسيارات التي يستخدمانها مراقبة، وكانت لدى السلطات دائماً صورة واضحة عن كل ما كان يجري.
من الممكن إحباط الهجمات الإرهابية غالباً بسبب ترك المهاجمين آثاراً خلفهم. وتماماً بعد هجمات تموز (يوليو) من العام 2005 في لندن، حذر محقق بريطاني من أن التحقيقات أولت القليل جداً من الاهتمام لإرهابيين يعملون خارج رادار الأجهزة الأمنية. وفي ذلك الوقت، تركز معظم الانتباه على “الإرهابيين الذين ترعرعوا في الوطن” -شباب اختاروا التطرف من تلقاء أنفسهم حتى من دون الاجتماع مع قادة تنظيم القاعدة أو مع داعين معروفين إلى الكراهية. وسرت هذه الفئة على كل واحد من الرجال الأربعة الذين نسفوا أنفسهم في لندن.
منذ ذلك الحين، أصبح الإرهاب أكثر حرفية. والآن، أصبحت العقول المدبرة في “الدولة الإسلامية” تبني شبكة من الخلايا السرية من مرحلة مبكرة مسبقاً، والتي تهاجم من دون تأخير في أي لحظة يتم اختيارها. وما يفعلونه بذلك في سورية موثق جيداً. ومن المرجح أنهم يفعلون الشيء نفسه في أوروبا.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الأردنية