بالحديث عن سقوط بغداد وانهيار الدولة العراقية بمفهومها ،ودخول القوات الاحتلال الاميركي وحلفائها الى العراق عام 2003، يتبادر الى الى الاذهان ذلك السقوط الرهيب في كل المعاني الانسانية والاخلاقية بكل المقاييس ، ليؤسس لمرحلة جديدة سطرت لانهيار نظام واركان الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،واستبدلت كل المفاهيم التي قد ترتبط بالدولة واسست نظام غوغائي يشبه تلك الانظمة التي كانت موجودة في القرون الوسطى .
كان العراق قبل دخول قوات الاحتلال لأراضيه ،دولة كسائر دول الاقليم رغم الحصار الذي فرض عليها منذ عام 1991م ،بعد ازمة الخليج الاولى ،وكان النظام الاقتصادي فيها يتمتع بنوع من الاكتفاء الذاتي والاستقرار ، وكانت البنى التحتية ملائمة ، وتتمتع البلاد بنوع من الاستقرار رغم الظروف التي رافقت الحصار .
منذ دخول قوات الاحتلال الاميركي في العراق حتى ساعة رحيله عام 2011، عملت قوى الاحتلال للسيطرة على ثرواته ونهب خيراته ،والهيمنة على كل اشكال الحياة ، وتميزت فترة الاحتلال الاميركي بالفساد المستشري وغياب الامن والاستقرار.
ونذكر على سبيل المثال لا الحصر الاتهامات وجهت إلى الحاكم الأميركي بول بريمر بضياع أكثر من 8 مليارات دولار والتي يرى فيها المراقبين انها فتحت باب الحديث عن الفساد على مصرعيه في العراق .
بعد رحيل القوات المحتلة عن ارض العراق ،بدأت مرحلة الادارة غير المباشرة عن طريق عملاء الاحتلال الاميركي ، وعملاء جهات اقليمية تسعى لتقطيع اوصال العراق تمزيق وحدته ونهب خيراته ، وكل هذا تم فعلا بمساعدة شخصيات عراقية رفيعة المستوى في الحكومات التي تلت خروج الاحتلال من العراق .
وفي عهد حكومة نوري المالكي ازدهرت عمليات الفساد وبلغت اوجها ، وهنا على سبيل المثال نذكر مثال صفقة الاسلحة الروسية عام 2012 حيث قدرت الرشى بأكثر من 200 مليون دولار، وانطوت الصفقة على قضايا فساد لاحقت كبار المسؤولين في الحكومة، وقد كان من المقرر أن يدفعها وسطاء على شكل عمولات إلى المسؤولين العراقيين عن إبرام صفقة السلاح الروسية التي تفوق قيمتها 4 مليارات و200 مليون دولار.
وبحسب تقارير ومعلومات رسمية وإعلامية صدرت خلال العام الماضي فقد تم سرقة أكثر من نصف تريليون دولار من أموال الدولة العراقية خلال فترة حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ، وتقدر قيمة هذه الأموال بأكثر من نصف الريع النفطي بين 2003 و2015 المقدر بـ 800 بليون دولار.
لم يقف الامر عن هذا الحد بل حرصت تلك الحكومة على إخفاء الحسابات الختامية للموازنات العامة للدولة، للتغطية على حجم السرقات والفساد الذي تتعرض له الموازنة في سنواتها المالية المتلاحقة، وتؤكد مصادر برلمانية عراقية قيام نوري المالكي بإخفاء نحو 20 مليار دولار أمريكي من الموازنة العامة للبلاد سنويا، لكن الرقم يتجاوز ذلك حيث تم اخفاء مبلغ تجاوز 850 مليون دولار من قبل المالكي وحكومته ولم يعرف مصيرها الى الان .
العراق صاحب اكبر ثروات في العالم بفضل الفاسدين من السياسيين ومن معهم تبوء المراكز الاولى خلال13 عام ، وقد صنّفت منظمة الشفافية الدولية العراق كثالث أسوأ بلد في العالم من حيث الفساد في 2006 و2007 و2008 – ورابع أسوأ بلد في العام 2009. ووضع البنك الدولي أيضاً العراق في أسفل القائمة، ليأتي في المرتبة الثانية بين الدول الأكثر فساداً في العالم.
و قالت صحيفة “بيزنس انسايدر” الأمريكية أن البنك الدولي قيم العراق من أسوأ الأماكن في العالم الخاصة بالأعمال التجارية، في عام 2015،
لو تطرقنا الى القطاعات الاقتصادية فالأوضاع أسوء بكثير فقد افرزت الازمة المالية في العراق والتي تعتبر حصيلة لتراكمات الفساد المستشري منذ سنوات تتجاوز العقد من الزمان ، انتجت شعب يعاني الفقر بنسبة كبيرة ،وانتشار البطالة بين صفوف الشباب بنسب تجاوزت الـ 25 بالمائة ، وترهل اداري في دوائر الدولة ومؤسساتها ، وتهريب الأموال إلى خارج العراق ،بالتالي بلد مدمر بفعل الساسة والمحاصصة الطائفية، واطلاق يد عدو العراق الازلي ايران، لتسرق مقدرات البلد وخيراته بشكل مباشر او عن طريق اتباعه وميليشياته التي تمزق جسد العراق .
وقد كشف التحقيق الاستقصائي الذي أجراه “فيرفاكس ميديا” و”هافينغتن بوست” “عن آلاف الوثائق” من موقع شركة “يوناويل” المملوكة من عائلة إيرانية ومقرها إمارة موناكو، وقد تناول التحقيق ما وصفه بصفقات فساد تحت غطاء عقود نفطية شملت مسؤولين عراقيين رفيعي المستوى.
و الحديث عن الوضع الاقتصادي يطول، ففي مقالاتنا السابقة تناولنا ملف جولات التراخيص في قطاع النفط العراقي والذي يعتبر من اكبر عمليات السرقة والنهب في تاريخ العراق ،وكذلك يعتبر اكبر كارثة حلت بالعراق واقتصاده, خصوصا ان النفط يشكل حوالي 95 % من ايرادات الدولة ، لكن اوضاع الفوضى التي حلت بالعراق ،والتي سعت اطراف داخلية الى تأجيجها حالت دون الكشف عنها او تسليط الضوء عليها ،فكانت تحصل بسبب الاقصاء الممنهج للشخصيات الوطنية ،واغراق البلاد بأزمات اقتصادية وسياسية وأمنية لتشكل ستارا يحجب الانظار عن هذه التجاوزات والسرقات في الدولة العراقية والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات وتشير التقارير الى ان خسائر العراق من النفط المهرب والمصدّر بطرق غير شرعية إلى الخارج منذ عام 2003 قدرت بحوالي 120 مليار دولار، وما خفي كان اعظم .
اضف الى ما سبق ان العراق اليوم جزء من اراضيه تحت سيطرة الارهاب ، و تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى اقتراب عدد النازحين في العراق من عتبة ثلاثة ملايين ونصف مليون بسبب التطورات الأمنية في عدد من المدن وتهجير سكانها سواء من طرف مليشيات مسلحة أو تنظيم الدولة، خصوصا في السنتين الأخيرتين.
حتى ملف النازحين لم يسلم من الفساد فقد اشارت العديد من التقارير الى وجود شبهات تتعلق بمبالغ مخصصة للنازحين وبالرغم من مرور عام ونصف العام على هذه الاتهامات الا انها الى اليوم لم يعرف شيء بشأنها .
هذا غيض من فيض للسنوات العجاف التي عاشها العراق في ظل الاحتلال وما بعده ، وقد لاحظنا خلال ما سبق ان الفساد المستشري كان اساس كل تخلف وضياع ونهب لثروات العراق ومقدراته ، لدرجة ان هؤلاء الفاسدين تآمروا على بلدهم لخدمة اطراف خارجية ، وضياع اراضيه ،ولم يكن خاسر في هذه المعادلة الا المواطن العراقي البسيط ، الذي لم يأمن على حياته او قوته بسبب تلاعب الفاسدين وغياب القانون ، وبات العراق اليوم على حافة الانهيار الاقتصادي بسبب سنوات الفساد والنهب ، لكن يبقى التساؤل دائما مطروحا ، هل سنشهد محاسبة هؤلاء الفاسدين ؟
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للأبحاث والدراسات الاستراتيجية