تبرز نظريتان أساسيتان فى تفسير الانهيار الأخير لأسعار النفط بين يونيو 2014 وأبريل 2016؛ وفى تحليل أسباب قفزاتها وانهياراتها بوجه عام. الأولي، هى النظرية الاقتصادية، التى تفسر تطورات الأسعار بمتغيرات العرض والطلب، والثانية، هى النظرية السياسية، التى تفسر تغيرات الأسعار بمؤامرات سياسية توظف النفط سلاحا فى صراع الإرادات الدولية. وبينما تركز أمريكا وحلفاؤها على النظرية الاقتصادية، فقد لجأت الى نظرية المؤامرة لتفسير القفزات الكبرى للأسعار كما جرى لدى تصحيحها فى سياق حرب أكتوبر. وبينما تركز روسيا وحلفاؤها على نظرية المؤامرة، فإنها لا تستطيع انكار دور السوق فى الدفع نحو الانهيارات الكبرى للأسعار.
وأسجل أولا، أن الأسعار العالمية للنفط قد شهدت انهيارا حادًا بلغ نحو 60 فى المائة فى يناير 2015 مقارنة بمستويات يونيو 2014، حيث هبطت من مائة وأربعة عشر دولارًا لأقل من خمسين دولارًا، وواصلت الانخفاض الى نحو 72% فى يناير 2016، حين تدنت لأقل من ثلاثين دولارًا للبرميل. ومع مطلع الشهر الحالى زادت الأسعار الى نحو أربعين دولارًا، وبرزت عوامل تدفع فى اتجاه الارتفاع، دون توقع أن تعود الى مستواها قبل يونيو 2014. وكانت الاحتكارات الغربية الكبرى التى هيمنت على انتاج النفط فى منطقة الخليج قد فرضت سياسة أسعار النفط الرخيصة حتى حرب أكتوبر 1973، حين تمكنت الدول العربية بقيادة السعودية من فرض حظر جزئى على صادرات النفط، وتصحيح أسعاره، ارتفعت مجددا إثر الثورة الإيرانية ومع الحرب الإيرانية العراقية. ثم عاودت الهبوط مع اغراق البلدين للسوق لتغطية تكاليف الحرب فى الثمانينيات، وتدنت الى نحو 10 دولارات للبرميل فى عام 1986. وتقلبت الأسعار فى التسعينيات، ثم انهارت إلى ستة عشر دولارا مع الأزمة المالية الآسيوية. وفى العقد الأول من القرن العشرين عاودت الأسعار الارتفاع حتى قفزت الى مستوى غير مسبوق، حين زادت على مائة وخمسة وأربعين دولارًا للبرميل فى يوليو من عام 2008.
وثانيا، أن الانهيار الأخير لأسعار النفط، وفقا للنظرية الاقتصادية دفعت اليه، فى جانب العرض، زيادة الإنتاج الأمريكى من النفط الصخري، وتحوُّل سياسة منظمة أوبك من استهداف سعر مُعيَّن إلى الحفاظ على حصتها من السوق. وفى جانب الطلب، تراجع الطلب العالمى عمَّا كان متوقعاً بسبب بطء النمو الاقتصادى العالمي، وخلافا لانهيار أسعار النفط نتيجةً لانهيار الطلب بسبب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، التى تفجرت فى أغسطس 2008، فإن العوامل الخاصة بجانب العرض صارات تلعب دوراً مهيمناً فى سوق النفط فى الوقت الحالي، كما سجل البنك الدولي. وتنطلق نظرية المؤامرة من حقيقة أن التاريخ الحديث حافل بالأزمات الكبرى التى استخدم فيها النفط كسلاح فعال فى السياسة الدولية للضغط على دولة أو أكثر لتحقيق أهداف سياسية. ويرى البعض أن الانهيار الأخير لأسعار النفط، بشكل مفاجئ ومتسارع خلال فترة قصيرة جدا، ليس جزءا من دورة اقتصادية طبيعية. ويرى بعض المحللين أن الولايات المتّحدة والسعودية تريدان الضغط على المنتجين الآخرين، وأبرزهم روسيا وإيران، وبما أن كلا من الرياض وواشنطن يمكنهما تحمل تراجع نسبى للأسعار، فإن هذا يبدو محتملا لكسر تأثير موسكو وطهران فى أى محادثات قائمة أو حرب دائرة. ويرى الاقتصادى الأمريكى ديفيد كوتوك أن تدنى أسعار النفط بالإضافة الى ارتفاع الإنتاج لأعلى معدل فى التاريخ أفضل سلاح للسعوديين؛ لأن لديهم احتياطات مالية كافية للبقاء فى القيادة لعدة سنوات قادمة. وبالمقابل، لا تتمتع إيران بنفس المرونة المالية ولذلك تحتاج لرفع الأسعار، ومع انخفاض الأسعار يحرم السعوديون عدوّهم على الجانب الآخر من الخليج المال؛ وهذه هى حرب النفط.
وثالثا، أن التنبؤ بأسعار النفط، مثل التنبؤ بالمؤشرات الاقتصادية الأخري، يبقى أمرا غير هيِّن، لأن عوامل مثل العرض والطلب والظروف الجيوسياسية والبيئة النقدية والتنظيمية العالمية قد تسهم فى تحوُّل الأسعار فى اتجاهات مختلفة، كما يسلم البنك الدولي. ويفسر الأخير توقعاته المتشائمة بشأن أسعار النفط بعوامل أهمها: عدم توقع أن يتعافى الاقتصاد العالمى قريبا ولاسيما فى منطقة اليورو، وأن الصين لا تعانى فقط انخفاضا فى معدل نمو اقتصادها وإنما بدأت تدخل مرحلة تنمية أقل كثافة فى استهلاك النفط، وأن الاتفاق النووى مع إيران ورفع العقوبات على صادرات النفط الإيرانية سيؤدى الى زيادتها، بجانب ارتفاع صادرات النفط العراقية والليبية إذا انحسرت المخاطر الجيوسياسية. وقد واصلت أسعار النفط هبوطها بعدما غيرت أوبك سياستها فى 2014 بهدف الحفاظ على حصتها فى السوق فى مواجهة المنتجين المنافسين؛ بدلا من خفض الإنتاج لدعم الأسعار المنخفضة، وقادت السعودية وحلفاؤها الخليجيون هذا التغير فى الاستراتيجية. ورفضت أوبك بقيادة السعودية خفض إنتاجها حتى مع انخفاض الطلب، كما رفض منتجو الوقود الصخرى بأمريكا وقف الضخ.
ورابعا، أن المسار المستقبلى لأسعار النفط تكتنفه أجواء كثيفة من عدم اليقين، كما أكد تقرير صندوق النقد الدولى المعنون التعايش مع انخفاض أسعار النفط. وفى تقرير مهم قدم صندوق النقد الدولى صورة متشائمة لعواقب الضغوط المالية التى تثقل كاهل الرياض، المعتمدة بنسبة 90% من إيراداتها على عائدات النفط، واضطرارها لتغطية العجز موازنة الدولة بتقليص الإنفاق العام وتأجيل بعض المشاريع، ومع السحب من احتياطياتها لتجنب عواقب هذه الاجراءات توقع الصندوق أن تنفق السعودية جميع احتياطياتها المالية خلال خمس سنوات. ولعل هذا المتغير هو السبب الأهم لدعوة السعودية الى تثبيت الانتاج، وهو ما أيدته 15 دولة منتجة للنفط، ومن المتوقع أن تتوصل للاتفاق على هذا فى اجتماع الدوحة المقرر عقده فى 17 أبريل الحالي. لكن هذا الاتفاق، مع استمرار الصراع السعودى الإيراني، سيواجه بعقبة ايران، التى يقدر أن لديها نحو 30 مليون برميل من مخزون النفط الخام الجاهز للبيع، وتتطلع الى رفع انتاجها للمستوى السابق للعقوبات الأمريكية الغربية عليها.
د. طه عبد العليم
نقلا عن صحيفة الأهرام