في الوقت الذي كان منتظراً أن تنعم إيران بالبلايين المتأتية من رفع العقوبات بعد دخول اتفاق فيينا حيّز التنفيذ منتصف كانون الثاني (يناير) الماضي، بما يخرج الاقتصاد الإيراني من حال الركود والانكماش، قال مرشد الثورة علي خامنئي، لمناسبة عيد رأس السنة الفارسية (نوروز)، إن السنة 1395 التي بدأت في 20 آذار (مارس) يجب أن تكون سنة «اقتصاد المقاومة والعمل»، ووصف الاتفاق الذي أبرمته إيران مع الدول الغربية بأنه «بقدر ما يعطي آمالاً كذلك فإنه يرفع نسبة القلق عند الإيرانيين».
وبفارق دقائق من كلام خامنئي، وصف الرئيس الإيراني حسن روحاني، السنة المقبلة بأنها «سنة أمل وجهد»، مؤكداً أنه «بالتفاهم مع العالم يمكننا السير باتجاه الازدهار الاقتصادي»، وذلك قبل أن يستدرك توجهات المرشد في مناسبات لاحقة ويبدأ بالكلام عن «اقتصاد المقاومة».
الحديث عن اقتصاد المقاومة ليس جديداً في بلاد تتعرض للقيود التي فرضتها الولايات المتحدة منذ اندلاع أزمة الرهائن في 1979، والتي وصلت إلى مستوى الحظر التجاري الكامل عام 1995، وإلى العقوبات التي بدأت فرضها الأمم المتحدة عام 2006، إذ يُنقل عن آية الله الخميني قوله لأبو الحسن بني صدر، إنّ المقاطعة الأميركية خلال أزمة الرهائن لن تضرّ بالسكان لأنهم «في زمن الرسول كانوا لا يأكلون إلاّ تمرة واحدة في اليوم». وكان ذلك أصدق تعبير عن قدرة الثورة الإسلامية على الصمود في وجه العقوبات، وعلى نجاح هذا النموذج من المقاومة التي يخوضها اقتصاد وطني تشغل الدولة ما يقارب 80 في المئة من حجمه الإجمالي ويغيب عنه قطاع خاص قادر على المبادرة، أو في استطاعته تعزيز حضور الطبقة الوسطى في الشأن السياسي، بما يشي بأن الحال المعيشية في إيران لا تشكل مدخلاً أو منطلقاً للتغيير السياسي.
كذلك الأمر بالنسبة الى التوجهات الكيانية وشعارات العودة إلى الداخل، التي رفعتها الثورة الخضراء عام 2009، وتم وأدها على أيدي تيار الثورة. أما الانتخابات التشريعية الأخيرة، فلم تقدم جديداً على مستوى التوازنات الداخلية على رغم اكتساح لوائح رفسنجاني العدد الأكبر من مقاعد مجلس الخبراء، وتقدم قوائم روحاني في الجولة الأولى من انتخابات مجلس الشورى.
لا بل بالعكس، ظهر أن إمساك المتشددين بمفاصل السلطة يضع حدوداً قوية لأي طموح يتناول إمكان الانفتاح الضروري لمواكبة مرحلة ما بعد فيينا، أو يضمن إطلالة مختلفة للديبلوماسية الإيرانية على الواقعين الإقليمي والدولي.
طبعاً، هذا التشدّد يسحب نفسه على جماعة إيران التي تمسك بمكتسباتها في المنطقة على رغم الكلفة الباهظة التي تتحمّلها وتحملها لشعوبها.
وكما التحق روحاني بالدعوة إلى اقتصاد المقاومة، كذلك فعل رفسنجاني حين استدرك كلامه عن أن المستقبل هو للحوار بعد رد المرشد عليه بالتمسك بديبلوماسية الصواريخ تلازماً مع أي حوار في المستقبل. طبعاً، هذا السجال، على رغم حسم المرشد له، يظهر ما آلت إليه التوازنات الداخلية بعد محطتي اتفاق فيينا والانتخابات، ما يراهن على توظيفه ثنائي رفسنجاني وروحاني، فيما يأخذ المرشد على عاتقه الحدّ من أي انعكاس محتمل يمكن أن يتأتى نتيجة رفع العقوبات أو نتيجة الواقع الذي تفرضه الانتخابات التشريعية. ولا يُغني ذلك عن الانقسام حول الموقف السياسي والعقائدي من الولايات المتحدة، بين أن تبقى بوصفها الشيطان الأكبر بسبب مستوجبات المواجهة الإقليمية، وأن تتحول إلى شريك على الساحة الدولية، وهذا ما سحب نفسه ليصل إلى حد تقليل المرشد الرهانَ على الحوار الذي كان مطلوباً قبل اتفاق فيينا.
في جميع الأحوال، تقف إيران أمام مفترق طرق حاسم هذه المرة، فالحوار مع العرب يحول دونه الممر الإلزامي بتغيير السلوك كشرط للدخول فيه، علماً أن الحاجة إليه تتزايد مع تنامي الدور الروسي كمنافس على التركة الإيرانية في المنطقة، والحوار مع واشنطن أخذ يتباطأ نتيجة عدم حسم الوجهة داخلياً، إضافة إلى عجز المستوى الديبلوماسي عن رسم خطوط للسياسة الخارجية تتلاءم مع ديبلوماسية الصواريخ، والخيبة الملحوظة من نتائج رفع العقوبات. طبعاً، ذلك كله انعكس على زيارات روحاني إلى العواصم الخارجية، التي فشل بعضها وألغي بعضها الآخر، إذ كانت خيبته كبيرة في باكستان عندما ووجه بمعطيات تؤكد التعاون المتقدم بين إيران والهند على المستويين الاستخباري والأمني بما يستهدف باكستان انطلاقاً من الأراضي الإيرانية، ولم يكد يغادر العاصمة الباكستانية حتى ظهرت اعترافات متورطين في شبكات التجسّس على الإعلام.
الموضوع لا يقف عند هذا الحد، فالمرشد لا يمكنه إهدار منجزات الثورة، ولا يقبل المس بالمنظومة الثقافية المُلازمة لها. فتلك الأمور ترتبط بالحضور الفاعل لإيران على المستوى الإقليمي، لكن نقاشها وحسمها باتا من مستوجبات مرحلة ما بعد فيينا، وهنا التحدي الذي راهن عليه الرئيس الأميركي باراك أوباما، عندما عمل على تقوية منطق روحاني لحضّه على القيام بتحولات داخلية.
صورة إيران كنموذج يشبه اليابان كانت بادية عند كثر من الغربيين الذين اعتقدوا أن الأمور يمكن أن تتم بهذه البساطة، ووحدهم العرب لم يتورطوا بمبالغات من هذا القبيل.
والخلاصة، أن الحوار مع الغرب بعد اتفاق فيينا أصبح قضية إشكالية مثلها مثل الحوار مع العرب، وهذا ما يفاقم الحاجة إلى حسم الوجهة داخلياً. هنا يكمن التحدي، فأزمة إيران في الداخل ليست أقل من أزمتها في الخارج. وربما يكون على الغرب والعرب، معاً هذه المرة، مساعدة إيران في تنظيم عملية تحولاتها، وقد تكون مواجهة الطموحات الإيرانية في المنطقة واحداً من تلك العوامل المساعدة!
بهاء أبو كروم
صحيفة الحياة اللندنية